طباعة

علم النفس وقضية العنف

Posted in المجتمع

huge-accidentتحدث فرويد في نظرياته عن غريزة أسماها غريزة العدوان، واتُّهم فرويد بأنه يعتبر العدوان غريزة أصيلة عند الإنسان، وكأنه يعتبر العنف والاعتداء بين البشر عملاً مشروعاً أو مبرراً على أقل تقدير.

ولم يكن فرويد وحده هو المتهم بذلك من من بين مؤسسي مدارس علم النفس ومنظري هذه المدارس، فقدأشارت المدرسة الإيثولوجية بلسان أكثر من عالم من علمائها إلى أنه يمكننا أن نعتبر العدوان سمة مرتبطة بالنوع البشري، فهو غريزة مهمة لبقاء الأنسان، يمكنه بتأثير هذه الغريزة أن يحصل على غذائه، ويحمي نفسه من المخاطر التي تتهدده، ويجذب الجنس الآخر. لكن هذه المدرسة تنبه إلى وجود آليات يمكن للإنسان أن يضبط دوافعه العدوانية من خلالها حينما يحتاج إلى هذا الضبط.

 

وفي مراحل تالية لظهور مدرسة التحليل النفسي الفرويدية والمنحى الإيثولوجي تحولت اهتمامات مدارس علم النفس إلى دراسة العدوان من مداخل أخرى، ففي مجال علم النفس الاجتماعي مثلاً، كانت العوامل البيولوجية تعتبر خلفية يمكن أن تهدئ تأثير الاستفزاز في الموقف المباشر الذي يعيشه الفرد، والذي يتطلب الدخول في نزاع مع الآخرين. وفي هذا التصور اعتبر العدوان استجابة لمثير خارجي أكثر من كونه تصرفاً مستنداً إلى دافع داخلي. وقد ركز الباحثون في مواصفات المواقف التي تحتمل وجود العدوان على المواقف التي تتضمن الإحباط، والتي تتضمن الاستثارة والاستفزاز.

وقد توصلت لورا بيكر بعد عرضها لتوجهات علم النفس في "موسوعة العنف في أميركا" إلى أنه يمكننا أن نقر بأن العدوان استراتيجية يتبعها كثير من الكائنات، ومنها الإنسان، لكن التعبير بشكل عنيف يتوقف على الخبرات الاجتماعية السابقة التي يحملها الكائن، وعلى سياق الموقف الاجتماعي الذي يجد الكائن نفسه فيه. كما أن هناك فروقاً فردية واسعة بين الناس في نزوعهم للسلوك العدواني، وهذه الفروق ناتجة من عوامل وراثية وعوامل بيئية، ومن التفاعل بين هاتين الفئتين من العوامل. وترى بيكر أن أي تفسير نفسي للسلوك العنيف يجب أن يأخذ في اعتباره كلاً من العوامل البيولوجية والعوامل المرتبطة بالمواقف الخارجية في البيئة.

ولا بد أن نشير إلى إسهامات باربرا ويتمر التي ترجم كتابها للعربية ضمن سلسة عالم المعرفة الكويتية بعنوان "الأنماط الثقافية للعنف"،  وقد بحثت التأثيرات العميقة في الثقافة الغربية التي أدت إلى جعل العنف مشروعاً في هذه الثقافة برأيها. وهذا الجهد يمكن أن ينبه إلى أن مشكلة العنف التي تفاقمت في الفترات الحالية من تاريخ البشرية يمكن أن تواجه بالجهد العلمي المترافق مع الإصلاح في المجال الثقافي الذي ينمو فيه العلم.

لقد قدم علم النفس خلال مسيرته في العلم الحديث من خلال تفسيراته للعدوان، قدم مناهج واستراتيجيات وتطبيقات متعددة لعلاج الاضطرابات النفسية التي تؤدي للسلوك العنيف لدى الأفراد، لكن يبدو أن مكافحة السلوك العنيف على مستوى التجمعات والمجتمعات البشرية تحتاج إلى اتصال وتكاتف بين هذا العلم وعلوم أخرى، وكذلك إلى اتصال بين هذا العلم والأطر الثقافية التي ينمو فيها وتعمل تطبيقاته في مجتمعاتها.

إن العنف ليس تصرفاً يجبر عليه الفرد بأصل تكوينه وخلقه، وكذلك ليس سمة ملازمة لبعض المجتمعات، ويمكن أن تتم مواجهته بإصلاح ثقافة هذا المجتمع، وفي الثقافة العربية والثقافة الغربية وغيرهما من الثقافات كثير من المواضع التي نحتاج أن نواجهها بالنقد لنعرف إن كانت توجه أبناء المجتمع نحو السلوك العنيف. وكذلك علينا ألا نقبل العنف باعتباره ظاهرة لا يمكن للبشرية كلها أن تنفك عنها في المرحلة الحالية من تاريخها، ومواجهة ذلك تكون ببذل الجهد في إصلاح الثقافة العالمية، وآليات الحوار بين الثقافات، والتواصل بين المجتمعات.