طباعة هذه الصفحة
الإثنين, 09 تموز/يوليو 2012 19:10

حقوق المريض النفسى بين الرعاية والوصاية

كتبه  د.محمد المهدى
قييم هذا الموضوع
(0 أصوات)

cant-sleepإن حضارات الأمم تقاس بمدى رعايتها للضعفاء , والمريض النفسي هو أحد الضعفاء خاصة حين يفقد القدرة على إدارة حياته ويعجز عن التكيف مع الظروف المحيطة به بسبب مرضه , وما هان مستضعفوا أمة على أقويائها إلا وهانت كل الأمة .

طبيعة المرض النفسى وتأثير ذلك على حقوق المريض :

 

 

يختلف المرض النفسى عن غيره من الأمراض حيث يؤثر على وظائف مهمة مثل الوعى والإدراك والتمييز والتفكير والإرادة والحكم على الأمور والإستبصار والقدرة على اتخاذ القرار , والحالة الوجدانية , والسلوك  وهذه الوظائف تتأثر بدرجات متفاوتة طبقا للحالة المرضية الموجودة , حيث يزداد الإضطراب فى الحالات الذهانية بشكل واضح ومؤثر , وهذا يستدعى تدخل الأسرة وأحيانا المجتمع بهدف الرعاية , وأحيانا الحماية وربما الوصاية المؤقتة أو الدائمة , وقد يبالغ الأهل أو المجتمع فى الحماية أو الوصاية بشكل يؤثر على حقوق المريض النفسى كإنسان , حيث يتحول الأمر من جانبهم إلى نوع من السيطرة والإستبداد والقمع تحت ستار المرض النفسى .

وقد يحدث عكس ذلك فيتعرض المريض للإهمال أو النبذ أو الوصم أو الإيذاء , وأحيانا يتعرض للقتل دون ذنب جناه.

والمرض النفسى له مستويات متعددة , وينتج عن عوامل متشابكة منها الجسدى والنفسى والإجتماعى والدينى , والنظرة لهذا المرض وبالتالى التعامل معه يتأثران بالعوامل الثقافية والعادات والتقاليد , لذا وجب الإحاطة بكل هذه العوامل ووضعها فى الإعتبار حين نتعامل مع المريض النفسى على المستوى العائلى أو المجتمعى أو الطبى أو القانونى .

من هنا نشطت فى العالم كله دعوات للمحافظة على حقوق المريض الذى فقد بعضا من وظائفه المعرفية أو اضطربت وظائفه الوجدانية والسلوكية .

******

تاريخ مضئ وحاضر ملتبس :

اهتم قدماء المصريين برعاية المرضى النفسيين والحفاظ على حقوقهم وكرامتهم , ويظهر ذلك فى الكثير من البرديات والآثار التى تركوها

ونظر أبقراط إلى الأمراض النفسية نظرة موضوعية , وذكر أنها لا تختلف عن الأمراض العضوية , ونفى الإعتقاد بقدسيتها وغموضها , وذلك ليواجه الخرافات التى كانت سائدة فى عصور الظلام والتى كانت ترى أن المرض النفسى تسببه أرواح شريرة ويقومون بضرب المريض وإيذائه لإخراج هذه الأرواح .

وفى الوقت الذى كان المريض النفسي يعامل بقسوة فى أوروبا فيربط بالجنازير ويضرب ويحرق بالنار , قام الخليفة الأموى الوليد بن عبد الملك بتأسيس أول بيمارستان للمرضى العقليين بدمشق سنة 93 ه (707 م) , وكانت تخصص لهم جرايات تنفق عليهم للعيش داخل البيمارستان وخارجه . وفى سنة 151 ه (765م) أسس العباسيون فى بغداد أول قسم مخصص للأمراض العقلية , ثم نسجت على منواله جميع العواصم الإسلامية فى الشرق والغرب ,


وكان أشهرها مستشفى قلاوون فى مصر والتى كانت تحوى قسما للأمراض العقلية جنبا إلى جنب مع التخصصات الطبية الأخرى , وقد دفع ذلك الإخوة "سان جان دى يو" (Saint Jean de Dieu) فى أوائل القرن الخامس عشر إلى بناء أول مأوى أوروبى للأمراض النفسية بفلنسيا (Valence)على مثال البيمارستان الذى بنى بالقاهرة سنة 705 ه (1304 م) , ثم انتقل الإخوة "سان جان دى يو" إلى فرنسا وشيدوا مأوى شارنتون (Charenton)بطلب من الملكة مارى دى ميدس (Marie de Medicis)(عن المجلة الطبية لاتحاد الأطباء العرب , صفحة 5, 6,7 مع الإختصار)  . واهتم العرب والمسلمون بتزيين المستشفيات العقلية بالنافورات والحدائق , واهتموا بغذاء المرضى وحسن معاملتهم , واعتبروا ذلك واجبا دينيا ومجتمعيا .

وفى الوقت الحاضر نرى تقدما علميا رائعا وزيادة مضطردة فى الأدوية والوسائل المستخدمة لعلاج الأمراض النفسية , ولكن نجد أيضا جنوح لدى الكثيرين فى اعتبار تلك الأمراض ناتجة عن تأثير الجن وبناءا على ذلك تنتشر ممارسات إخراج الجن على يد دجالين ومشعوذين متسترين بشعارات دينية أو شبه دينية . وهذا لا يمنع وجود مؤسسات ومنشآت لعلاج الأمراض النفسية فى الجامعات المصرية ومستشفيات وزارة الصحة , مع وجود كوادر بشرية جيدة التدريب , وأساتذة لهم سمعة عالمية ممتازة على المستوى العالمى .

******

حقوق المريض النفسى :

1 - حقه فى العلاج :

والحق فى العلاج هنا ليس فقط واجبا إنسانيا أو مجتمعيا , وإنما هو تكليف إلهى , فمن المقاصد الأساسية للشريعة حفظ النفس وحفظ العقل .

وهذا الحق يتضمن :

علاج المريض فى مكان مناسب وبأدوية ووسائل علاجية مناسبة دون تفرقة على أساس الفقر أو الغنى  أو اللون أو الجنس أو العقيدة .

عودة المريض إلى بيته وحياته الطبيعية فى أول فرصة تسمح بذلك , وأن لا يتم احتجازه لآجال طويلة دون دواع طبية .

حق المريض فى أن يعالج فى بيئته الطبيعية وبين أهله كلما أمكن ذلك , وهو ما يسمى فى الطب الحديث ب "العلاج المجتمعى"  , (Community Therapy)حيث تصل الخدمة الطبية إلى مستحقيها دون انتزاعهم من بيئتهم الطبيعية .

حق المريض النفسى فى فهم طبيعة مرضه (كلما أمكن ذلك) , وفهم طبيعة العلاجات التى يتلقاها وموافقته عليها (إذا كان مستبصرا بمرضه) .


حق المريضة النفسية (أو المريض النفسى) فى الحماية من آثار الطرح الذى ينشأ أثناء العلاج, وهو حالة من التعلق العاطفى بالمعالج (أو الرفض له) نظرا لما يمثله فى وعى المريضة (أو المريض) وما يذكرها به من شخصيات أحبتها أو كرهتها فى حياتها . وهذا يستلزم قدرة وضبط من المعالج , وأن لا يستغل ضعف المريض أو المريضة فى هذه العلاقة.

حق المريض فى الرعاية اللاحقة والتأهيل

وقد تأكدت هذه الحقوق عالميا فى إعلان الأمم المتحده فى عام 1991 حول حقوق المريض النفسى , ومن أهمها الحق فى العلاج باستخدام الوسائل الطبية الحديثة , وأن يحصل المرضى النفسيون على ذلك دون تفرقة , على أن يتم ذلك باختيار المريض , أو بأقل قدر من القيود على حريته .

2 - حقوقه المدنية  :

وهذه الحقوق لا تقل عن حقه فى العلاج , فهى تتصل بكونه إنسانا مكرما , يعامل بالعدل والرحمة والإحسان , ومن هذه الحقوق على سبيل المثال :

حقه فى الزيارات أثناء حجزه بالمستشفى

حقه فى الإتصال بالعالم الخارجى من خلال التليفون , ومشاهدة التليفزيون , وسماع الراديو , وقراءة الصحف والمجلات والكتب

حقه فى تدبير شئونه وإدارة أمواله متى كان ذلك ممكنا , ويستثنى من ذلك حالات الحجر أو الوصاية بضوابطها الطبية والشرعية

حقه فى الإقامة فى مكان ملائم

حقه فى وظيفة ملائمة لظروفه تهيؤها له الدولة أو مؤسسات المجتمع المدنى وتراعى فى ذلك صعوبات تكيفه ومحدودية قدراته وحاجته للدعم المستمر

حقه فى نوعية حياة جيدة سواء داخل المستشفى أو فى بيئته

حقه فى الحرية مالم يكن فى ذلك إضرارا بنفسه أو بالآخرين

حقه فى الإحتفاظ بكرامته بعيدا عن الوصم الإجتماعى , فوصمة المرض النفسى قد تحرم صاحبها من كثير من حقوقه كالعمل والزواج والعلاقات الإجتماعية

حقه فى الرعاية الأسرية دون المبالغة فى فرض الحماية أو الوصاية عليه

حقه فى الرعاية المجتمعية سواءا الحكومية  أو مؤسسات المجتمع المدنى

حقه فى المحاكمة أمام محاكم خاصة لديها القاعدة القانونية إضافة إلى خلفية طبية تدرك بها طبيعة المرض النفسى وظروفه وتأثيره على وعى المريض وتمكييزه وإرادته وسلوكياته.


 

إشكاليات تواجه الرعاية الطبية للمريض النفسي :

هناك العديد من التساؤلات التى لم تجد لها إجابة محددة فى قوانين الصحة النفسية المختلفة نذكر منها :

1 – هل يحفظ الطبيب النفسى سر المريض وهو يعلم أنه قد يسبب ضررا لأحد أو ينوى ارتكاب جريمة ؟

2 – ماذا يفعل الطبيب إزاء مريض نفسى يتبوأ منصبا مهما يتأثر بمرضه النفسى ويؤدى أو ربما يؤدى إلى نتائج خطيرة ؟

3 – ماذا يفعل إزاء مريض بالصرع أو بمرض نفسى يؤثر على قدرته فى التحكم وهو فى نفس الوقت يحمل رخصة قيادة ويقود سيارته بطريقة قد تكون غير آمنة ؟

4 – ماذا يفعل الطبيب النفسي إزاء شخص يتعاطى المخدرات أو المسكرات وهو يعمل فى وظائف حساسة كالطيران أو الأمن أو القضاء أو التعليم أو غيرها ؟

5 – ماذا يفعل إزاء مريض أبلغه بأنه سوف ينتحر , ثم رفض هذا المريض نصيحته بدخول المستشفى ؟

هل من حق الطبيب النفسى أن يبلغ أولى الأمر بمثل هذه الحالات دفعا للضرر العام أو الخاص , أم يلتزم الصمت بناءا على قاعدة سرية العلاج وحق المريض فى المحافظة على أسراره ؟

توصيات :

هذه التوصيات مردها إلى مشروع قانون الصحة النفسية الجديد والمعروض على مجلس الشعب للمناقشة , ذلك القانون الذى انتظرناه طويلا حيث ما زلنا نسير على القانون رقم 141 لسنة 1944 م ذلك القانون الذى أصدره الملك فاروق ولم يتغير منذ ذلك الحين رغم أن الدنيا تغيرت كثيرا عبر هذه السنين . وقد جاءت مسودة مشروع القانون الجديد لتحاول اللحاق بالعصر الجديد , ولكنها جاءت وكأنها كتبت لمجتمع غير المجتمع المصرى , وحوت قيودا هائلة على الممارسة الطبية , وجعلت رقبة الطبيب النفسي تحت المقصلة طول الوقت , وجعلت التفكير فى إنشاء أو تشغيل منشأة نفسية أشبه بالمشى فى حقل ألغام , فيبدو أن مواد هذا القانون الجديد قد وضعها رجال قانون بمساعدة قليلة من أطباء نفسيين , أو أنها صيغت على غرار قانون وضع لبلد غربى تختلف ظروفه وثقافته كثيرا عن المجتمع المصرى , ولذا جاء القانون مغتربا ومفزعا لأى ممارس لمهنة الطب النفسى حيث يضعهع طول الوقت تحت تهديد القانون ليجد نفسه دون أن يقصد أو يدرى مهددا بالسجن لعدم درايته بالتفاصيل الكثيرة والمعقدة لهذا القانون . وقد يصعب مناقشة مواد القانون فى هذه المساحة ولذا نكتفى ببعض التوصيات العامة على أمل إنقاذ الموقف قبل فوات الأوان :

مراعاة الظروف الثقافية والإجتماعية فى إصدار القوانيين الخاصة بالصحة النفسية , فنحن مجتمع أسرى تلعب فيه الأسرة دورا هاما , وتؤثر فى حياة أفرادها , فى حين يضعف دور المؤسسات الحكومية الرسمية والمدنية . وهذا يستلزم مراعاة عدم نزع حق الأسرة فى علاج المريض ورعايته حيث لا توجد لدينا مؤسسات مجتمعية تسد فراغ غياب الأسرة أو تقييدها بالقانون عن القيام بهذا الدور

استلهام أسس الرعاية لحقوق المريض النفسى من ثقافة المجتمع فى القانون الجديد للصحة النفسية حتى لا يصدر القانون على صورته الحالية مغتربا ومنتميا إلى مجتمعات أخرى لديها قيمها وآليات حياتها المختلفة عنا جملة وتفصيلا .


مراعاة موافقة القانون الجديد للصحة النفسية لأحكام الشريعة الإسلامية حتى لا تتعارض بعض مواده مع المادة الثانية للدستور , وخاصة فيما يتعلق بأحكام الزواج والطلاق والعقود والميراث والشهادة والأهلية والوصاية والحجر وتعاطى المخدرات والمسكرات , وغيرها من القضايا .

مراعاة النقص الشديد فى المتخصصين فى علاج الأمراض النفسية وفى المنشآت المخصصة للمرضى النفسيين فى مصر , هذا النقص الذى قد يشكل عوائق كثيرة فى تطبيق القانون ويضع القائمين عليه فى حرج أو اضطراب , كما أن القيود الشديدة التى حواها القانون تجعل الكثيرين يحجموا عن إنشاء مصحات أو أقسام أو مستشفيات نفسية عامة أو خاصة , بل قد تجعل الأطباء يبتعدوا أساسا عن هذا التخصص الشائك .

 

المصدر : www.hayatnafs.com

إقرأ 11052 مرات آخر تعديل على الثلاثاء, 25 أيلول/سبتمبر 2012 08:32

البنود ذات الصلة (بواسطة علامة)