الأربعاء, 11 تموز/يوليو 2012 21:02

كرب ما بعد الصدمة PTSD

كتبه  د. محمد المهدى
قييم هذا الموضوع
(0 أصوات)

flagحين نسمع كلمة طفل تتوارد فى الذهن صور ومعانى البراءة والعذوبة والمرح واللعب والتلقائية والرقة والسرير الدافئ والحاجة للرعاية والحماية والأمان فى حضن أم وأب هما نفسهما ينعمان بالأمان والسلام والطمأنينة وفى بيئة تخلو من الأخطار أما حين يقال طفل فلسطينى فإن الصورة تتغير تماماً وتضطرب اضطراباً شديداً فتستبدل بصورة الطفل محمد الدرة الذى يصرخ مستغيثاً تحت وابل الرصاص الذى ينهال عليه

 

وهو فى حضن أبيه فيموت بين ذراعيه ولا يسمع صرخاته أو صرخات أبيه أحد فى العالم المتحضر والمتسربل بالرداء الأمريكى الصهيونى ، ويظهر فى الصورة أطفال رضع اخترقت الرصاصات الإسرائيلية بطونهم وصدورهم أو مزقت رؤوسهم الطرية . وتظهر فى الصورة طفلة لم تتجاوز الخامسة واقفة على أطلال منزل هدمته الجرافات الإسرائيلية ، والطفلة المسكينة تحاول العثور على بقايا لعبها وعرائسها وحين تيأس من ذلك تقف فى حيرة

وتنظر إلى المجهول  فهى لا تفهم ما يحدث . ويظهر فى الصورة طفل فلسطينى لم يتجاوز الثانية عشرة ينتزعه جندي إسرائيلى من بين يدى أمه المتشبثة به تحاول حمايته من عذاب أليم ينتظره فى معسكرات الاعتقال والتعذيب الصهيونية . وتظهر فى الصورة أم شابه تقبل طفليها الصغيرين – النائمين فى سريرهما – القبلة الأخيرة قبل أن تموت فى عملية استشهاديه . وتظهر فى الصورة قطع صغيرة لأجساد أطفال تمزقت بفعل صواريخ اسرائيلية أطلقت على منزلهم ليلاً وهم نيام . ويظهر فى الصورة جنود صهاينة ينتزعون أباً من بين أطفاله وزوجته وهم يصرخون هلعاً ويستغيثون المعتصم ولكن المعتصم قدمات .

وعلى الرغم من وجود الكثير من الهيئات والجمعيات الحكومية وغير الحكومية ، والمواثيق التى ترعى وتدافع عن حقوق الطفل فى العالم كله .. إلا أن كل هؤلاء يصيبهم الخرس حين يكون المعتدى إسرائيلياً-أمريكيا والمعتدى عليه فلسطينياً .

 

تأثير الأحداث الصادمة على نفس الطفل الفلسطينى :

الطفل ليست لديه القدرات المعرفية الكافية لكى يستوعب تلك الخبرات الصادمة ويعطيها معنى يمكن استيعابه فى المنظومة النفسية لذلك يصبح هضم هذه الخبرات صعبا . يضاف إلى ذلك عدم قدرته على التعبير اللفظى عن معاناته لذلك تحدث اضطرابات كثيرة فى دائرتى المشاعر والسلوك .


 

فالطفل الفلسطينى  يواجه هذا الكم الهائل والمتزايد من العنف المباشر وغير المباشر بشكل يومى وهو لا يعرف لماذا يحدث وإذا عرف لا يفهم مغزى الأحداث كما يفهمها الكبار .

وحين يتعرض أى طفل لخطر فإنه يحتمى بأمه أو أبيه وأو يلوذ بالفرار نحو بيته ليجد فيه الأمان ، أما فى حالة الطفل الفلسطينى فلا يوجد مصدر للحماية ولا يوجد ملاذ آمن فالأب والأم حياتهما مستباحة والبيت حرمته منتهكة ، وقوات الشرطة الفلسطينية مطاردة ، وحتى رمز الدولة - الرئيس الفلسطينى - محاصر ومضطهد  . أى أن الطفل الفلسطينى حين يداهمه الخطر فإنه يفتقد إلى أى غطاء للأمان ويفتقد إلى الحماية والرعاية ويواجه الصواريخ والدبابات والمدافع والرشاشات بجسد عارٍ تماماً من وسائل الحماية .

وهذا وضع متفرد لا يكاد يوجد مثيله فى العالم كله ، فلا يوجد شعب فى العالم حالياً يواجه جيشاً بشكل مباشر وبصفة يومية غير الشعب الفلسطيني , وحالة التوغل المتكررة فى شوارع غزة والضفة الغربية تعطى إحساساً بالخطر الداهم لكل أسرة ولكل شخص فى المجتمع الفلسطينى وبشكل مباشر ولا توجد سلطة أو هيئة محلية أو دولية تحمى هذا الشعب وتحمى بالأخص أطفاله من الانتهاكات والاستباحات .

إذن فنحن أمام خبرات صادمة وأخطار هائلة تتجاوز حدود احتمال أى إنسان عادى فضلاً عن الأطفال وهذه الخبرات مستمرة ومتصاعدة ومفرطة وغير إنسانية وغير منطقية ، يتعرض لها أطفال صغار يفتقدون للمأوى والملاذ والحماية ، وهذا يجعلنا نقترب من الصورة الكارثية للحالة النفسية لهؤلاء الأطفال .

وقد تم من خلال برنامج الصحة النفسية لمجتمع غزة عام 1992 دراسة 23 13 طفل باستخدام قائمة الأحداث الصادمة وتبين أن 100% من الأطفال قد تعرضوا لخبرة صادمة على الأقل فى حياتهم وفى يناير 1993 تمت دراسة تأثير الخبرات الصادمة على الاستجابات المعرفية الانفعالية لدى 108 من أطفال غزة وتبين وجود مشكلاتً فى التذكر وارتفاع فى استرى العصاب والسلوك الخطر فى الأطفال . ووجد أن هؤلاء الأطفال المصدومين يدركون صورة آبائهم على أنهم أكثر تحكماً وميلاً للعقاب والعدوان (قوطة والسرّاج 2001) .

وفى عام 1994 تمت متابعة 64 طفلا من خلال نفس البرنامج لتحديد تأثير " تفاهمات أوسلو " (التى أدت إلى هدوء نسبى) على الحالة النفسية لهؤلاء الأطفال فتبين ثمة انخفاض ملحوظ على مستوى العصابية (قوطه والسرّاج 2001) .

وبما أن الوضع فى الأراضى الفلسطينية متفرد – كما أسلفنا – حيث الخبرات الصادمة متكررة ومتصاعدة وحيث المجتمع كله تحت التهديد والخطر وحيث انعدام مصادر الدعم والمساندة ، فإننا نتوقع اختلاف الصورة الإكلينيكية واختلاف المسار والمآل لاضطراب كرب ما بعد الصدمة لدى الأطفال الفلسطينيين فنحن هنا لا نصل إلى حالة " ما بعد الصدمة " لأن الصدمات متتالية ومستمرة بل ومتصاعدة وقد دفع هذا بعض القائمين على برنامج الصحة النفسية لمجتمع غزة (فإن إينويك والمصرى وأبو طواحينا 1992) إلى اقتراح ما يسمى بـ (زملة غزة) والتى تتميز بعلامات إكلينيكية خاصة مثل وجود ضلالات وأفكار اقتحامية وسواسية والضلالات هنا تختلف عن مثيلاتها فى الاضطرابات الضلالية المعهودة فى أن المريض يدرك أنها غير طبيعية .

ومن خلال تعاملى الشخصى المباشر مع بعض هذه الحالات التى حضرت إلى مصر للعلاج وجدت بعض الأعراض التحوليه ( الشلل الهستيرى أو البكم الهستيرى أو غيرها ) والانشقاقية ( فقد الذاكرة الهستيرى أو اذدواج الشخصية ) والتبول الليلى اللاإرادى واضطرابات التأقلم وتأخر النضج النفسى جنباً إلى جنب مع أعراض اضطرابات كرب ما بعد الصدمة .


 

إذن فنحن أمام صورة غير نمطية لهذا الاضطراب (Atypical form of PTSD) نتجت عن طبيعة الخبرات الصادمة وغياب الأمن وغياب مصادر الدعم والمساندة بشكل مزمن ومتصاعد .

 

المسار والمآل :

من المعروف أن كرب مابعد الصدمة يأخذ بعض الوقت كى تظهر أعراضه ، وهذا الوقت يتفاوت فيقصر فى بعض الحالات إلى أسبوع ويطول فى حالات أخرى ليصل إلى ثلاثين سنة ( Kaplan and Sadock 1994 ) وتتفاوت شدة الأعراض من وقت لآخر ولكنها تبلغ ذروتها فى أوقات الإنضغاط النفسى . وقد تبين من الدراسات التى أجريت على الحالات النمطية من كرب مابعض الصدمة أن 30% من الحالات يتم شفاؤها تماما و 40% يستمرون فى المعاناة من بعض الأعراض البسيطة , و 20% يعانون من أعراض متوسطة الشدة , فى حين يبقى 10% كما هم أو يتدهورون أكثر . وهناك علامات تشير إلى توقع المآل الجيد منها : ظهور الأعراض بعد وقت قصير من وقوع الحدث , قصر مدة الأعراض ( أقل من ستة شهور ) , كفاءة أداء الشخصية قبل المرض , وجود تدعيم اجتماعى جيد , وأخيرا عدم وجود اضطرابات نفسية أخرى مصاحبة للحالة ( Kaplan and Sadock 1994 )   . وقد وجد بشكل عام أن المآل يصبح أسوأ فى الأطفال وكبار السن مقارنة بمتوسطى العمر ربما لافتقاد هاتين الفئتين لقدرات المواجهة ومهارات التكيف .

والسؤال الآن : هل تكرار الخبرات الصادمة نتيجة الاعتداءات والاختراقات المستمرة للجيش الإسرائيلى ضد شعب أعزل يؤدى إلى تراكم خبرات صدميه لدى الأطفال أم يؤدى إلى تقليل الحساسية لديهم نحو هذه الأخطار واعتبارها جزءا من الحياة اليومية لهم ؟ . وإذا كانت هذه الخبرات الصدمية ستتراكم فما هو تأثيرها على بناء شخصية هؤلاء الأطفال على المدى الطويل ؟ . هذه وغيرها تساؤلات تحتاج لدراسات تتبعيه طولية للإجابة عليها , ولكن الدراسات السابقة على الحالات النمطية لكرب ما بعد الصدمة أثبتت وجود آثار ضاره على النمو النفسى للأطفال الذين تعرضوا لهذه الخبرة الصدمية وأن هذه الآثار الضارة تمتد إلى سن الرشد وتؤدى إلى تغير نوعى فى الشخصية (Freud and Burilngham 1943, Brander 1841, Bunsdon 1941, Fraser 1974)

وكما يقول  قوطه والسراج (2001) فإننا لا نستطيع التنبؤ بالآثار والعواقب طويلة الأمد على نمو الأفراد فى حالة تعرض جيل بأكمله للصدمات الأذوية حيث واجهت كل أسرة أحداث عنف وقتل وإصابات أدت إلى إعاقات إضافة إلى الفقر والازدحام والإحباط ، ومن هنا تبدو كلمة ضغط أو كرب (Stress) غير كافية للتعبير عن هذه الحالة .

 

الخصائص التشخيصيه لاضطراب كرب ما يعد الصدمة :

إن الإمراضية (Psychopathology) الأساسية فى هذا الاضطراب هى (الذاكرة الصدمية)

(Traumatic Memory) وهذا ينعكس فى أعراض نفسية محددة وردت فى الدليل التشخيصى والإحصائى الرابع للأمراض النفسية (DSM IV 1994) كالتالى :


 

أ) تعرض الشخص لحادث صدمى (أذوى) وحدث التالى :

1-   مر الشخص بخبرة أو شاهد أو واجه حدث أو إحداث تضمنت موت حقيقى أو تهديد بالموت أو إصابة بالغة أو تهديد شديد لسلامة الشخص أو الآخرين .

2-   وتضمنت استجابة الشخص لخوف شديد وإحساس بالعجز والرعب ، وفى الأطفال يظهر هذا فى صورة سلوك مضطرب أو هجاجة .

ب) وتتم إعادة معايشة الحدث الصدمى بطريقة أو بأخرى من الطرق التالية :

1-   تذكر الحدث بشكل متكرر ومقتحم وضاغط وذلك يتضمن صورا ذهنية أو أفكارا أو مدركات .

2-   استعادة الحدث بشكل متكرر وضاغط فى الأحلام .

3-   التصرف أو الشعور وكأن الحدث الصدمى (الأذوى) عائد .

4-   انضغاط نفسى شديد عند التعرض لمثيرات داخلية أو خارجية ترمز إلى أو تشبه بعض جوانب الحدث الصدمى .

5-   استجابات فسيولوجيه تحدث عند التعرض للمثيرات سابقة الذكر .

ج) التفادى المستمر لأى مثيرات مرتبطة بالحدث إضافة إلى خدر عام فى الاستجابات .

د) أعراض زيادة الاستثارة بشكل دائم .

هـ) الأعراض مستمرة لمدة شهر على الأقل (أما إذا كانت أقل من شهر فيطلق عليها اضطراب الكرب الحاد) .

و) وهذا الاضطراب – يسبب إنضغاطاً إكلينيكيا واضحاً أو يؤدى إلى تدهور فى الأنشطة  الاجتماعية أو الوظيفية أو جوانب أخرى هامة .

وفى الأطفال ربما لا نجد عملية استعادة الحدث بالشكل المألوف لدى الكبار وإنما نجد عملية تمثيل الحدث أثناء اللعب ، أو نجد أحلام مفزعة لا يستطيع الطفل ذكر محتواها .

التقدير النفسى للحدث عند الطفل :

يتأثر تقدير الشخص المصاب للحدث بعوامل ثقافية ودينيه تعطى للحدث معنى معيناً يترتب عليه حجم ونوعية التأثر بالحدث . يحدث هذا فى الأشخاص الراشدين أما فى الأطفال فإن البناء المعرفى لم يكتمل بعد ولذلك يبدو التقدير النفسى للحدث غامضاً وبالتالى يفتح الباب أمام كل الاحتمالات ، ولكن على أى فإن الحدث الصادم (أو الضاغط أو الأذوى) يدهم شخصية لم تنضج بعد معرفياً ووجدانياً وروحياً وبالتالى نتوقع إحداث تشوهات نمائية متعددة وعميقة تحتاج للعديد من الدراسات الطولية الممتدة عبر الأجيال لتقديرها .

 

تأثير الحدث الصدمى على الافتراضات الأساسية لدى الطفل :

من خلال تعامل الطفل مع أسرته ومع عالمه الصغير تتكون لديه صورة بسيطة عن نفسه وعن الحياة ( تسمى افتراضات أساسية ) تتلخص فى :


1- أنه شئ محبوب من المحيطين به .

2- وهم يقومون بحمايته ورعايته ولا يعرضونه للخطر ، وهم قادرون على ذلك .

3- وأن هناك منطق يحكم العالم وهو أن الخير دائماً ينتصر لأن الله يحب الأخيار ويحميهم ويساعدهم .

وعند تعرض هذا الطفل للحدث الصدمى فإن هذه الافتراضات أو القناعات الأساسية تتزلزل وتتهدم فى لحظة الاعتداء على الطفل أو ذويه حيث يرى كل شئ يتغير أمام عينيه فتهتز كل ثوابته ويتعرض للتناثر والتشتت وتتعرض صورته عن نفسه وعن العالم للتشوه . وبما أن تكوينه المعرفى والوجدانى لم ينضج بعد لذلك تكون الآثار عميقة ومؤثرة بشكل أكثر من الكبار .

وربما يقول قائل : " إن الطفل لديه قدرة كبيرة على التأقلم مع الأحداث ربما تفوق قدره الكبار وذلك بسبب عدم وجود تصورات جاهزة كثيرة عن العالم لديه وبالتالى فهو أكثر تقبلاً للتصورات والأنماط الواقعة فعلاً دون مقارنتها بنمط قياس " ؟ .

وهذا القول صحيح من ناحية ولكنه من ناحية يعنى أن التأقلم حين يحدث فى هذه الظروف فإنه التأقلم المشوه والذى يؤدى إلى تثبيت أفكار واتجاهات العدوان والانتقام وعدم الثقة فى أى شئ .

 

الغضب غير المنصرف (الحنق) : Unresolved anger (resentment)

وهذا يعنى اختزان الغضب والعنف وانتظار لحظة الانتقام . وهذا الغضب الكامن يؤذى النفس ويؤذى الغير ، أما عن إيذائه لنفس الطفل فهو يرسب حالة من التوتر المستمر واضطرابات النوم والاكتئاب ومشاعر الكره والعنف ، وأما عن إيذائه للغير فذلك يرجع إلى إمكانية إطلاق دفعات الكره والعنف إلى المعتدى أو إلى أى شخص آخر يثير هذه المشاعر .

وبتعدد تعرض الطفل الفلسطينى للأحداث الصادمة تتراكم مشاعر الغضب المكتوم وما يترتب عليها من آثار نفسية وكل هذا يعزز السلوكيات العنيفة لدى الطفل فى الحاضر والمستقبل .

 

أثر العوامل الاجتماعية والدينية  :

فى المجتمعات العربية والإسلامية غالباً ما يتلقى الناس الصدمات بشكل جماعى وليس بشكل فردى ، فمازال هناك ترابط داخل الأسرة النووية ومازال هناك نظام الأسرة الممتدة تركيبياً (بمعنى وجود عائلة كبيرة فى بيت واحد) أو وظيفياً (بمعنى ارتباط الأسرة النووية بالعائلة الكبيرة من خلال الزيارات والاتصالات بشكل دائم) ، ومازال هناك الترابط الاجتماعى على مستوى القرية أو الحى أو المدينة . ولدور العبادة ( المساجد والكنائس ) دور هام فى المحافظة على تماسك المحتمع وتدعيمه خاصة فى أوقات الأزمات الشديدة . وهذا العوامل _ بلا شك _ تخفف كثيراً من وقع الصدمات على الأفراد لأنها تشكل شبكة من الدعم والمساندة تمتص جزءاً هاماً من الصدمات وتساعد على مواجهة آثارها .


 

وحين فطن الإسرائيليون إلى هذا البعد الاجتماعى المدعوم دينيا حرصوا على تمزيقه من خلال بناء الأسوار والحواجز الأمنية وبناء المستوطنات اليهودية بحيث تقطع التواصل السكانى فى المناطق الفلسطينية ، وعزل القرى والأحياء عن بعضها بحيث أصبح التواصل الجغرافى والاجتماعى الفلسطينى مهدداً ، ولم يكتفوا بذلك بل عمدوا إلى عمليات اختراق متقطعة بقواتهم لتقطيع ما تبقى من أوصال المجتمع الفلسطينى وإضعاف شبكة التواصل والدعم والمساندة داخل هذا المجتمع وإعطاء شعور انعدام الأمن حتى يصل إلى حالة اليأس والاستسلام .

وفى هذه الظروف الأمنية والاجتماعية شديدة الصعوبة ينشأ واقع نفسى مهدد للجميع فالطفل الفلسطينى والمراهق الفلسطينى والشاب الفلسطينى حين يجد أن جسده يلاصق جنازير الدبابات الإسرائيلية فى أى لحظة دون حماية من قريب أو بعيد وأن الجندى الإسرائيلى يقتحم عليه غرفته وسريره فى أى لحظة فإن ذلك ينفى من وعيه الأمل فى الأمان والأمل فى المساعدة فيسهل عليه الاستغناء عن هذه الحياة الذليلة المهددة فى سبيل إفناء الآخر المعتدى ويقوم بذلك وحيداً فى عملية استشهاديه تحمل قدراً هائلاً من الغضب والعنف المخزونين يسهلان لحظة الانتقال من الحياة إلى الموت خاصة حين يستقر فى وعيه توقع حياة رائعة بعد هذه اللحظة الفاصلة ... حياة النعيم والخلود .

إذن فمن الناحية النفسية نجد أن الإسرائيليين ومن يحالفهم من الأمريكان وغيرهم يصنعون بظلمهم وقهرهم يومياً قنابل بشرية لا مناص من انفجارها لأن شحنات الغضب والكراهية واليأس وفقدان الثقة بالعدل أو الدعم أو المساندة لا يمكن أن يكون لها ناتج آخر .

 

العـــلاج :

سنتحدث عن وسائل العلاج المختلفة اللازمة لاضطراب كرب ما بعد الصدمة ثم نشير إلى الصعوبات الموجودة فى المجتمع الفلسطينى والتى ربما تعوق الكثير من هذه الوسائل العلاجية فى النهاية ، ونقترح بعض الحلول المتاحة للتغلب على هذه الصعوبات (أو بعضها) كلما أمكن ذلك .

 

أ ) احتياجات لازمة للعلاج :

1-  استعادة الأمان : وذلك بنقل الطفل إلى مكان يشعر فيه بالأمان والطمأنينة بعيداً عن مكان الحادث (وهذا غير متاح فى كثير من الأحيان فحتى المستشفيات لا تسلم من الإعتداءات الإسرائيلية ولا توجد حرمة لبيت أو كنيسة أو مدرسة فكل الأماكن مستباحة حتى مراكز الهيئات الدولية ) .

2- استعادة القدرة على التعامل مع عواقب الحدث الصادم : من خلال مساعدته على معرفة ما حدث له ولأسرته بشكل يحتمله وعيه مع إيجاد بدائل مناسبة لأقامته ورعايته وعودته إلى مدرسته .

3- استعادة شبكة الدعم والمساندة : وذلك من خلال إحاطته بمن تبقى من أفراد أسرته وأقاربه ، وجمعيات الدعم والمساندة فى المجتمع .

4-   إمكانية استيعاب الخبرة الصادمة : فى البناء المعرفى البسيط للطفل من خلال إعطاء تفسيراً ومعنى لما حدث .

ب) العلاج الدوائى :

هناك بعض الأدوية التى ثبتت فاعليتها فى علاج هذا الاضطراب ومنها مضادات الاكتئاب ثلاثية الحلقات مثل الإميبرامين (تفرانيل) والأميتريبتيلين (تريبتزول) ونبدأ بجرعات صغيرة منها للأطفال  1مجم/كجم من وزن الطفل ونزيد بالتدريج حتى تتحسن الحالة مع مراعاة أن لا نتجاوز 3مجم/كجم من وزن الطفل يومياً . ويراعى فى استخدام هذه الأدوية الاطمئنان على قلب الطفل بواسطة الفحص الإكلينيكى وعمل رسم القلب خاصة إذا زادت الجرعة


وهناك مجموعة من الأدوية الأحدث وهى مانعات استرداد السيروتونين الإنتقائية  (ماسا) (SSRIS) مثل الفلوكستين والسيتالوبرام والسيرترالين والباروكستين والفلوفوكسامين وغيرهما ، وهذه المجموعة تتميز بأن أعراضها الجانبية أقل وتقبلها أفضل .

وتوجد بعض الأدوية المساعدة نذكر منها مضادات القلق مثل ألبرازولام (زاناكس) ومضادات الصرع مثل كاربامازيبين (تيجريتول) وفالبروات الصوديوم (ديباكين) (Kaplan & Sadock 1994) ، ويمكن استخدام البروبرانولول (إندرال) بجرعات بسيطة فى حالة زيادة ضربات القلب أو وجود المظاهر الجسمانية للقلق ( التعرق والرعشة وعدم الإستقرار ) .

ولا يخفى على أحد صعوبة توفر هذه الأدوية فى المستشفيات الفلسطينية بسبب الحصار المفروض وبسبب نقص الإمكانات المادية . وهذا يجعلنا نطالب الهيئات الدولية بتوفير مثل هذه الأدوية لهذا الإضطراب الذى يكاد يصيب كل الأطفال فى فلسطين , إضافة إلى توفير الخبرات اللازمة لتشخيصه وعلاجه سواء من الداخل أو الخارج .

ج) العلاج النفسى :

الفكرة الأساسية فى العلاج النفسى تتلخص فى إزالة الضغط النفسى الواقع على الطفل ( وذلك بإبعاده عن مصادر الخطر والتهديد , وهذا أمر يبدو خياليا فى ظروف المجتمع الفلسطينى ) ثم مساعدته على التنفيس عما تراكم بداخله من مشاعر وذكريات أثناء وقوع الحدث ، وهذا يتم بشكل تدريجى فى جو آمن ومدعم حتى يستطيع الطفل فى النهاية استيعاب آثار الصدمة وتجاوزها . ويلى ذلك تعليم الطفل مهارات مواجهة الأحداث حتى تزداد مناعته فى مواجهة أحداث مماثلة .

ويمكن أن يتم ذلك من خلال جلسات علاج فردى للطفل أو علاج أسرى يضم أفراد الأسرة الموجودين مع الطفل أو علاج جمعى يضم الطفل المصاب مع أطفال آخرين واجهوا أحداث مشابهة أو علاج جمعى يضم أسر الأطفال المصابين ... وهكذا .

والعلاج النفسى (الفردى أو العائلى أو الجمعى) غالباً ما يأخذ الوجهة التدعيميه للطفل ولأسرته ويقوم على أساس العلاج المعرفى السلوكى الذى يساعد على استيعاب الحدث فى البناء المعرفى من خلال إعطائه معنى لما حدث ثم التغلب على الآثار السلوكية الناتجة من خلال تمارين الاسترخاء أو التعرض التدريجى لمثيرات القلق مع تقليل الحساسية أو التعرض الفيضانى فى وجود دعم ومساندة .

د) العلاج الاجتماعى والدينى :

وذلك بتنشيط شبكة الدعم الاجتماعى (أو ما تبقى منها) وذلك بدءاً بالأسرة (أو بعض أفرادها الباقين على قيد الحياة) ثم العائلة ثم المدرسة ثم المسجد أو الكنيسة ثم جمعيات المساندة الأهلية . وقد ثبت من الأحداث دور الرموز والقيادات الدينية فى مساعدة الصغار والكبار على استيعاب الأحداث الدامية والتعامل معها بشكل تكيفى من خلال إعطاء المعنى الإيجابى لها من وجهة النظر الدينية الأعمق إضافة إلى أثر المفاهيم والأخلاقيات والممارسات الدينية على تماسك الأسرة والعائلة والمجتمع تحت مظلة التكافل الإجتماعى والتراحم والتلاحم .


 

هـ) العلاج الدولى :

محاولة تنشيط دور الهيئات الدولية ذات الصلة بالطفولة مثل اليونيسيف ومنظمة الصحة العالمية والهلال الأحمر والصليب الأحمر ومنظمات حقوق الطفل وحقوق الإنسان ، وذلك بهدف توفير الحماية والدعم والعلاج فى الأوقات التى يعجز المجتمع الفلسطينى فيها ( والمجتمع العربى أيضا ) عن تقديم مثل هذه الأشياء (وهو دائماً كذلك) بسبب السحق الإسرائيلي المستمر لإمكانات هذا الشعب الأعزل إضافة إلى التهديد الأمريكى المستمر لكل من تسول له نفسه تقديم يد المساعدة للشعب الفلسطينى خاصة من الأثرياء العرب  .

و-)البرامج التدريبية :

ونظراً لنقص الخدمات الطبية عموماً والنفسية بوجه خاص فى المجتمع الفلسطينى ونقص الكوادر المدربة على التعامل مع مثل هذه الحالات رغم كثرتها فى الأطفال والكبار فإن ذلك يستلزم تدريب عدد كاف من الأطباء والأخصائيين النفسيين والاجتماعيين وأعضاء هيئة التمريض والمدرسين والمرشدين الدينيين على  اكتشاف هذه الحالات والتعامل معها بشكل جيد بشكل جيد . ويمكن تحقيق هذا الهدف من خلال عدد من المحاضرات وورش العمل حول هذا الإضطراب المنتشر فى المجتمع الفلسطينى . كما يمكن طباعة كتيبات مبسطة توزع على المستشفيات والمدارس ودور العبادة تبين كيفية مساعدة من تعرضوا للأحداث الصادمة وتأثروا بها ( وهم كثر ) .

ويمكن أن تقوم النقابات الطبية فى العالم العربى وفى العالم بشكل عام بدور إيجابى فى ذلك الأمر مستعينة بمستشارين فى الطب النفسى والعلاج النفسى وبمنظمة أطباء بلا حدود وبمنظمة الصحة العالمية ومنظمة اليونيسيف وذلك لخرق الحصار الصهيوني الأمريكى حول الشعب الفلسطينى وتوصيل الخدمات النفسية والصحية الضرورية له فى هذه الظروف شديدة القسوة

ى) العون الإلكترونى :

وفى حالة استمرار الحصار الإسرائيلى (المدعوم أمريكياً والمسكوت عنه عالمياً) للشعب الفلسطينى وفى حالة استحالة توصيل الخدمات الصحية والنفسية المشار إليها سابقاً ( وهو أمر وارد وقائم فعلا ) فإنه يبقى أن تتم المساعدة من خلال وسائل الاتصال الحديثة وعلى رأسها الإنترنت وذلك لمساعدة أطباء الرعاية الأساسية وهيئات التمريض والأخصائيين النفسيين والاجتماعيين على تشخيص مثل هذه الحالات وعلاجها ورعايتها وأيضاً لمساعدة الأطفال وأسرهم من خلال تقديم العون والمشورة من متخصصين مقيمين خارج الحدود ويمكن أيضاً عمل خطوط تليفون ساخنة تعمل على مدار الساعة لتقديم الدعم والمساعدة للأطفال المصابين وأسرهم أو تقديم البرامج التدريبية عن بعد للمتعاملين مع هذه الحالات وخاصة الآباء والمدرسين وأطباء الرعاية الأساسية .

ى-) العلاج الإنسانى :

وإذا كان ما يحدث للأطفال فى فلسطين كل يوم يمثل جريمة بشعة وغير مسبوقة تقوم بها وتتستر عليها مجموعة من العنصريين المتطرفين فإن ذلك يستوجب وقوف حكماء العالم وقفة شريفة ونبيلة فى وجههم قبل فوات الأوان , لأن مايحدث – كما بينا – يزرع بذورا هائلة للعنف والكراهية والتطرف لايعلم مداها أحد , وربما يدفع العالم فى حالة سكوته ثمنا باهظا كذلك الثمن الذى دفعته الإنسانية جراء السكوت على عنصرية هتلر وفاشية موسولينى  . فالحركة الصهيونية حالة مرضية أصابت العالم المعاصر كفيروس تغلغل فى مراكز القوة والتأثير فجعلها تتجه نحو التدمير الذاتى للكيان البشرى ،


ومن هنا وجبت وقفة العقلاء من البشر من كل الأجناس ( وهم موجودون والحمد لله ) وقفة موضوعية متحررة من النزعات العنصرية والإنتهازية السياسية لمجموعة المتطرفين والمغامر ين المؤيدين للكيان الإسرائيلى العنصرى المتطرف والساكتين على انتهاكاته لكل الحقوق والأعراف والقوانين . وإلى أن يحدث هذا فلا أقل من ان يمد كل الخيرين فى العالم أيديهم الرحيمة ليمسحوا دمعة الطفل الفلسطينى ويعيدوا إليه الإحساس بالأمن والسلام فى حضن أسرته ومجتمعه كبقية أطفال العالم .

 

References

·        Qouta , S. and El-Sarraj E. (2001) . Trauma and PTSD. In : Images in Psychiatry : An Arab Perspective , Edited by Ahmed Okasha and Mario Maj, WPA Series, pages 136-141 .

·        Van Eenwyk , J. , El-Masri, M and Abu Tawahina, A (1992). Adaptation Disorder: The Gaza syndrome , Unpublished article .

·        Freud, A. and Burlingham, D (1943) . War and children . New York : Medica War Books , Ernest Willard .

·        Dunsdon, M (1941) A Psychologist’s Contribution to Air Raid problems Mental Health, 2,3 7041 .

·        Brander,   T. (1841) . Kinder Psychiatrics he Beobachtungen Waehrend des krieges in Finland 1939-1940 Zeitschrift fur kinder Psychiatric, 7, 177-187 .

·        Fraser, M (1974) . Children in Conflict. Middleset, England : Penguin .

·        American Psychiatric Association (1994) . Diagnostic criteria from DSM IV. Washington DC.

·        Kaplan, H and Sadock, B (1994) . PTSD, in Synopsis of Psychiatry, seventh edition, Williams and Wilkins, Middle East Edition, Cairo .

 

 المصدر : www.hayatnafs.com

إقرأ 18731 مرات آخر تعديل على الثلاثاء, 25 أيلول/سبتمبر 2012 08:32
FacebookMySpaceTwitterDiggDeliciousStumbleuponGoogle BookmarksRedditNewsvineTechnoratiLinkedinRSS Feed