الإثنين, 04 حزيران/يونيو 2012 18:16

كن عبدي وإلا قتلتك

كتبه  أ.د. يحيـى الرخــاوي
قييم هذا الموضوع
(0 أصوات)

abused-palestanianينبغي أن نعيد النظر في حادث 11 سبتمبر دون دهشة.إنه النتاج الطبيعي لاختيارهم، كما أنه الرمز المنذر لما يمكن أن يلحقنا جميعا، نحن وهم، إذا استمر الحال على ما هو عليه. عادوا يتساءلون: «لماذا يكرهوننا»؟، وكأن السؤال لا يحمل جوابه دون حاجة إلى إجابة. منذ أن كتب وليم ليديرر كتابه سنة 1958 بعنوان «الأمريكي القبيح» حتى كتب حلمي شعراوي في العدد الماضي من (سطور 68) ما ذكرنا به،

 

أو عرفنا به، ونفس السؤال يتردد وكأنه ليس ناقصا إلا أن يدرج في حقوق الإنسان «الأمريكي»: أنه على سائر البشر أن يحبوا الإنسان الأمريكي بوجه خاص، فإذا لم نحبه فنحن نتجاوز حقوق الإنسان عامة وليس الإنسان الأمريكي فحسب.

أتصور أن مسألة حقوق الإنسان الآن تتطور بشكل يناسب لغة العصر «العالمي الجديد». هي لم تعد حقوقا عامة، ولا واجبة طول الوقت. أصبحت حقوقا نوعية، جغرافية، دينية، مرحلية، تفصل في كل مناسبة حسب مصالح ومتطلبات الأسمى فالأدنى. السمة الثانية الجديدة لحقوق الإنسان الخاصة هي ملاحق المذكرات التفسيرية لتنظيم احتمال تعارض حقوق الإنسان الأرقى مع الإنسان الأدنى، مثال ذلك أنه إذا تعارضت حقوق الإنسان الأعلى مع حقوق الإنسان الأدنى فإن الأولي تجب الثانية شرعا. بهذا الفرض فإنه إذا كان من حق الإنسان الأمريكي أن يحب من سائر البشر ومن حق الإنسان الفلسطيني أن يكون له وطن، (بعد إثبات أنه إنسان دون اعتراض في مجلس الأمن) فإن على الفلسطيني أن يحب الأمريكي أولا ثم ينتظر حقه في الوطن حسب مزاج المحبوب ودرجة رضاه.

ما كل ما هو أمريكي: أمريكي

أخشى أن يفهم القارئ أنني أتحدث عن كل أمريكا أول كل أمريكي. أمريكا بلد من بلاد الله لخلق الله، فيها ما يحب، ومن يحب، كانت أملا للعالم الحر كما كان الاتحاد السوفييتي أملا للعدل والفرص الكريمة، لكن ما كل ما يتمني الناس يدركونه، «يأتي الدولار بما لا يشتهي البشر». أمريكا التي أشير إليها هنا قد لا يكون موقعها في القارة الأمريكية أصلاً، أنا أصف أمريكا الحقيقية عبر العالم، أمريكا العولمية هي التي عينت بوش في منصبه الحالي وليس الشعب الأمريكي، عينته وهو أبعد ما يكون عما يؤهله لمنصب ساع عند مدير عام جمعية زراعة البطاطس المصرية، هذه الأمريكا الفوقية الخفية هي التي جعلت بوقها الدبليو هذا يدافع عن حق شارون في قتل الناس في بيوتهم وسياراتهم دون محاكمة دفاعا عن مستعمرين احتلوا أرض غيرهم لا لينصبوا فيها الثكنات حتى يجلوا، ولكن ليقيموا عليها مستعمرات دائمة طاردة لأهل الأرض الأصليين. هذه الأمريكا العابرة للأخلاق والمبادئ والحقوق والقانون والتاريخ والجغرافيا، هي التي تجعلنا نتمسك بحق كراهيتها بقدر ما تفترض لنفسها حق أن نحبها رغم كل ما تمثله وتفعله.


إن من حق أي مخلوق بشري أن يدافع عن كيانه، وأمله، ونبضه، وإبداعه، ونوعه، بأن يمارس كراهية هذه الأمريكا بكل ما يجده مناسبا من أدوات، ومشاريع، وتحالفات، وبدائل، من أول تعطيل مصالحها، حتى رمز إبادة ما تمثله، مرورا بمقاطعتها، واحتقارا لما تعرضه علينا لنستهلكه مما لا نحتاجه.

حق الكراهية

مع أن الكراهية هي حق من حقوق الإنسان المشروعة، رغم دماثه المثاليين، ومع أن هذا الحق هو عرض يمارس إذا ما احتاجه صاحبه، فإنني كثيرا ما أتصور أن حقنا في كراهية هذه الأمريكا هو واجب كما أنه حق. أتساءل كيف يمكن ألا يكره إنسان طيب قوي متحضر هذه الأمريكا بما تفعل، وما تمثل، ومن تظلم، ومن تقتل.

من أولى بممارسة حق الكره؟

السؤال الأجدر بالطرح ــ إذن ــ يمكن أن يكون «لماذا لا نكرههم؟» وليس «لماذا نكرههم؟»

السؤال الآخر، وربما الأسبق الذي يحتاج بحثا أعمق يقول: «لماذا يكرهوننا هم؟». هذا إن كانوا يكرهوننا فعلا، ولا يكتفون باحتقارنا ومحاولة نفينا وإبادتنا.

أريد أن أنبه ابتداء أنني أتحفظ على المثل القائل «اللي يحب ما يكرهشي» اللهم إلا إذا كان يعني أن المحب يمكن أن يتغاضى عن بعض ما يكره في محبوبه. ذلك لأن الأصل العلمي لهذه المسألة يقول بعكس المثل تماما. إن القدرة على الكراهية تعني من ناحية رفض التبلد، كما أنها تعني ضمنا القدرة على الحب. إن الذي يستطيع أن يكره، هو الذي يمكن أن نحترم حبه وهو يتجاوز كراهيته ليحتويها في حب أرقى. إن كثيراً من المقولات والمزاعم المطروحة على«الساحة هذه الأيام تحت ما يسمى «ثقافة السلام» أو «قبول الآخر» أو حتى «حوار الأديان»، أو «حب الكل»، هي مقولات مثالية نظرية قد تكون طفلية إذا أحسنا الظن، وقد تكون مناورات ليس وراءها إلا خداع الأضعف. وخاصة إذا أكد عليها الأقوى، دون مسئولية حقيقية، ودون أن يختبر، ودون معاملة المثل..

بعد التسليم بأن الكراهية حق من حقوق الإنسان، وهي من الحقوق السرية حتى الآن، لنا أن نتساءل: من الأولي بممارسة هذا الحق في مساحة مشروعة باعتباره بداية اتخاذ موقف مناسب حفاظا على ذاته، ومن ثم على نوعه؟ الأضعف أم الأقوى؟

الأقوى يحتقر لا يكره

إن القوي لا يكلف خاطره أن يكره، فهو قادر على الظلم، وعلى القهر، وعلى القتل، وعلى النفي، وعلى السحق، وعلى الترك، وعلى الإنكار، وعلى الاستغلال، وعلى الاحتقار. يفعل كل ذلك دون تردد سواء أعلنه وقام بتفعيله بالسلاح، والاحتلال، والسيطرة، والغطرسة، والظلم الرسمي، أو قام بتسريبه من خلال الإعلام الأخبث، أو عبر اتفاقات الإذعان، والمعونات المشروطة،والفوقية المحتقرة. إن مثل هذا القوي الغبي لا يكلف خاطره أن يكره أصلاً. أما الضعيف الذي لا يملك ما يرد به وجها لوجه. وبالقدر المناسب لما يفعله فيه القوي المتغطرس، فهو يمارس الكراهية باعتبار أنها هي ما يقدر عليه، أو لعلها بداية تحفزه إلى أن يقدر على شيء أكبر.


إن كراهية الضعيف للقوي غير مضمونة العواقب دائما، برغم أنها حق، وأنها واجب. ذلك أنها أحيانا ما تزيد من يمارسها عجزا، وهي أحيانا ما تفجر صاحبها غيظا إذا لم يستطع أن يفجرها في فعل قادر مناسب، وهي أحياناً تستغرق صاحبها حتى يتصور أنها الغاية لا الدافع فيكتفي بها ويكررها «في المحل»، مع كل ذلك فهي تظل حقا من حقوق الإنسان الأضعف خاصة. إذا طلبنا من الضعيف المظلوم المقهور المهان ألا يكره، فإننا نطلب منه أن يتبلد، أو ندعوه إلى أن يستمرئ العبودية، لا أكثر ولا أقل.

فلماذا يكرهوننا هم؟

الرد على سؤال الأمريكيين لماذا يكرههم الناس، الضعفاء خاصة لا يحتاج ــ من خلال ما سبق ــ إلى تفسير. أضف إلى ذلك أن هناك من الأقوياء الشرفاء في أمريكا الجغرافيا وأمريكا الناس من يشاركنا في كراهية هذه الأمريكا/ السلطة/ المال الأعمى.

إن صح أنه من البديهي أن نكره نحن ــ باعتبارنا الأضعف ــ هذه الأمريكا/ السلطة، فكيف يمكن أن نفسر كراهيتهم لنا ونحن الأضعف؟

قبل أن نحاول أن نجيب عن هذا السؤال دعونا نطرح أسئلة سابقة تقول:

هل هم يكرهوننا أم يخافون منا؟

لماذا يخافون ونحن الأضعف والأتفه والأتبع في رأيهم، وربما أنها الحقيقة؟

وإذا كانوا يكرهوننا فهل يرجع ذلك إلى أننا مسلمون؟ أم لأننا عرب؟ أم لأننا مختلفون؟ أم لأننا متخلفون؟ أم لأننا نمثل تهديدا باعتبار أننا نمثل بديلا لا يعرفونه (ولا نحن)؟ أم لأننا لم نستسلم لهم بعد جملة وتفصيلا؟ وهل صحيح أننا لم نستسلم؟

مع أن الرجل الأمريكي العادي يتحمل مسئولية انتخاب هؤلاء الذين يقودنه وهم يترجحون بين البلاهة والإجرام، إلا أنه لا يكرهنا بالضرورة، الأغلب أن هذا الأمريكي في الأريزونا أو تكساس ليس عنده علم أصلا بوجودنا، أو موقعنا، أو ديننا، أو مطالبنا، أو حقنا ناهيك عن إيماننا أو طموحنا أو علاقتنا بحضارة أخري محتملة. هذا الجهل المعروف الذي يوصف به موقف ومعلومات المواطن الأمريكي بالنسبة للعالم الخارجي (وأحياناً الداخلي) يجعلنا لا نوجه له هذا الحديث إلا بمقدار ما قد يؤثر في ممارسته لانتخابات قادمة مشكوك في مصداقيتها. إنني أتصور أن هذه المؤسسة الفوقية إنما تزرع في ناسها «كراهية مصنوعة» لصالح استمرار وتدعيم هيمنتها على العالم.

المشاعر الأقسى


إذا لم تكن الكراهية هي الشعور المناسب من الأقوى للأضعف، فما هي حقيقة مشاعر هذا الأقوى تجاه المستضعف؟ أحسب أننا يمكن أن نرصد أنواعا مختلفة من المشاعر والمواقف لا أحسب أن الكراهية تقع على رأس قائمتها:

أولاً: الإهمال حتى الإلغاء: يمكن أن يعيش الأمريكي طول حياته لا يعرف من العرب أو ما هو الإسلام أو المسلمين إلا ما يشاهده مصادفة في فيلم سينمائي تافه، أو مسلسل مسطح. فإذا حدثت فرقعة هنا أو مصيبة عابرة أو جسيمة هناك، ما لم تحل كارثة ساحقة تعزي إلينا تجعل الإلغاء مستحيلا.

ثانياً: الاحتقار والتهوين: هذا الموقف لا يعلن عادة، لكنه يستنتج من النظرة الأعلى، والمعاملة بمكيالين، والاستهتار بالمشورة الحقيقية، وفرض الرأي صراحة أو من خلال المن بالمعونات المشروطة.

ثالثاً: الاستقطاب للانقضاض: هذا موقف يعني أنهم يضعوننا في وعيهم، وفي حساباتهم في أقصي الجانب الآخر من وجودهم، يرسمون صورتنا بعكس ما يتصورونه أنه الصحيح تماما. هذا هو تفسير ما دعاهم إلى تجسيم هذا العدو المجهول الذي أسموه «الإسلام» وهم لا يعرفون عنه إلا الصورة التي ألمح إليها مفكر خائب مثل فوكوياما، أو رسمها منظر أخيب مثل هنتنجتون. إنهم حين يصورون المسلمين باعتبارهم منافسي الجولة القادمة في الصراع المحتمل لا يكلفون خاطرهم بالتعرف الموضوعي على واقع المسلم أو الإسلام الذي عليهم أن يستعدوا لمواجهته. إنهم يختزلوننا إلى ما يبرر خوفهم، ثم يسوقون تلك الصورة يستعملونها لإخافة ناسهم، ومن ثم حفز الجميع للقتال والصراع بهدف القضاء على أي اختلاف ومختلف.

يظهر هذا الموقف بشكل مفضوح حيت يكرر السيد دبليو، بغطرسته الغبية أن «من ليس معنا فهو ضدنا:» أو حين يخفي هذه المقولة أحيانا تحت مقولات أو إشارات أكثر دلالة مثل «من لا يحارب الإرهاب معنا فهو يناصر الإرهاب ضدنا» أو «من ليس مع السلام والحرية اللذين يتجسدان فينا فهو مع الإرهاب والتخلف اللذين هما أي شيء غير ما نعتقد، وهكذا». كل هذا يؤدي في النهاية إلى ما أسميته الاستقطاب للانقضاض.

رابعاً: الشفقة والتفويت: يبدو هذا الموقف في ظاهره شبه إنساني، مع أنه في عمقه موقف سطحي لفظي. يمكن أن نتبينه في المقدمة المائعة لبيان الستين من مثقفيهم السلطويين حين يقولون كلاما إنشائيا في محاولة تبرئة أنفسهم من تهمة نفي الآخر والاستعلاء عليه. إن المتأمل في هذه المقدمة الإنشائية لابد أن يكتشف أنهم لا يمتدحون هذا الآخر إلا بوصفه قد حقق وجوده بالمقاييس التي حددوها للحسن والقبيح، أو للخير والشر. إنهم يمدحون الآخر حفزا له أن يرتقي ليقيسوه بمقاييسهم. يقولون مثلا ما معناه: إن المسلمين هم بشر وقد يكونون قابلين للتحضر، بل إنهم حاولوا في بعض فترات التاريخ أن يكونوا كذلك، بدليل أنهم في تلك الفترات اتبعوا النهج والقيم التي ارتضيناها لأنفسنا (وللبشر) أخيرا. إنهم بذلك يعلنون ضمنا قائمة القيم الذي حددوها هم دون غيرهم، بعد أن احتكروا تفسير مضامينها بأنفسهم دون سواهم. فهم الذين يضعون تعريفات خاصة لكل من «الحرية» و«العلم» و«المنهج» و«التنوير» ومؤخرا «الدين». ثم إنهم يصدرون فرمانا بعد ذلك أنه على كل ما يريد أن يحصل على رضاهم لينعم بحق التواجد معهم على هذه الأرض أن يكون مثلهم مع السماح بهامش من الاختلاف في التفاصيل التي تصف في النهاية فيما يريدون.


خامساً: المواجهة فالإبادة: إذا لم تفلح كل هذه الأساليب في تحقيق أمانهم الزائف، بنفي الآخر بدرجة تؤكد لهم احتكار الخير والحقيقة وأدوات السلطة، فإنهم لا يتوقفون عن التمادي في الغطرسة والإهانة والاستعمال والاحتقار بشكل متصاعد التحدي حتى يفقد هذا الأضعف ضبط نفسه فيقدم ــ يأسا ــ على ما يبرر لهم إبادته فعلا. وهكذا يحدث الحادث الذي ينتظرونه، فهم الذين مهدوا لظهوره، فيفزعون، ويهجمون، ويسحقون، ويبيدون مطلقين صيحات الاستغاثة، ثم نداءات الاستعانة أهازيج النصر.

في محاولة التعرف على«المكروه«

إن التعرف على ما يطلق عليه مسمي الإسلام في وقتنا هذا يحتاج لجهد هائل من المسلمين قبل أعدائهم. إن المطروح من أشكال وتجليات ما يسمي الإسلام هو أكثر من أي تصور، هذا على مستوي البلد الواحد (مصر مثلا)، فما بالك بما هو قائم على مستوي العالم.

ننظر في بعض تباديل وتوافيق ما يطلق عليه الإسلام، ربما أمكننا أن نتعرف على أي إسلام يفوتون له، وأي إسلام يوافقون عليه، وأي إسلام يحاربونه، وأي إسلام يستعدون للقضاء عليه.

إن المطروح على الساحة الآن مما يطلق عليه «إسلام» هو مختلف ومتنوع باختلاف التاريخ والجغرافيا والثقافة والممارسة. وفيما يلي بعض عينات من ذلك.

أولاً: الإسلام التوحيد الحرية: بلا سلطة دينية رسمية ولا وصاية سلفية جامدة، مع التأكيد على بساطة التعاليم ومباشرة العلاقة بالكون وخالقه. إن عمق التوحيد في هذا الإسلام الأصل هو الذي يولد حركية الحرية ويؤكد كرامة البشر ومساواتهم. هذا النوع من الإسلام، لا يمارس إلا ممارسة فردية لا تعني هؤلاء الكارهين في شيء، كما أنها قد لا تهددهم في شيء. أتصور أن خشية بعض مفكريهم من الحرية الحقيقية التي يمكن أن تتأكد من هذا الموقف التوحيدي يرجع إلى تحسبهم من احتمال كشف الحريات السطحية التي يروجونها.

ثانياً: الإسلام الرسمي السلطوي: وهو الذي تنتهي حدوده عند ألفاظ المعاجم، وفتاوي السلف. هذا النوع من الإسلام لا يخيفهم أصلا، بل لعلهم يساهمون في زيادة حجمه على حساب تجليات الإسلام الأخرى. إنه خير ضمان لهم أنهم الأعلى، والأكثر حركة، والأولي بقيادة العالم.

ثالثاً: الإسلام الوطني الشعبي: وهو الغالب في الممارسة التي تلتحم بالأرض الموجود عليها، وبثقافة ناسها، فيتجادل مع هذا وذاك ومع التاريخ الخاص بهذه المجموعة من المسلمين، لتفرز لنا إسلاما له طابعه المحلي الخاص، وهو وإن لم يخرج ــ غالباً ــ عن القواعد الجوهرية لما هو إسلام تقليدي إلا أن هذا النوع بالذات يمكن أن يحتوي مواطنين يدينون بأديان أخري، لكنهم يمارسون الإسلام المعيش بالعادات والتقاليد ونوع العلاقات والمواقف بشكل لا يمكن تمييزه عمن يعتنقون الدين المسمي بالإسلام، وهذا أقرب ما يكون إلى حال مصر منذ بضعة عقود، وربما فلسطين الآن.


يمكن أن نتصور أن هذا المزج بين الوطن والدين هو من أكبر ما يمثل تهديدا للمستعمرين الجدد نظرا لصعوبة احتواء من يمارسون هذا النوع من الإسلام، ومن هنا يتولد حذر خاص منهم وكراهية تجاههم تتناسب مع حجم مقاومة الإغارة المهيمنة.

رابعاً: الإسلام السياسي: وهو غير ما أطلقنا عليه الإسلام السلطوي، إن ما يسمي الإسلام السياسي يكاد يصبح وسيلة لغيره لا غاية في ذاته. إن أصحاب هذا النشاط يقومون باستعمال ظاهر الإسلام لأغراض سياسية تؤدي إلى تحريك المجاميع ليستعملوا هذا التحريك لتمكين. مجموعة من البشر من السلطة، ثم بعد ذلك يحلها حلال، إن مدي انتماء هذه المجموعة من البشر إلى الإسلام لابد أن يتوقف على تصنيف تال يضعهم حيث يمكن أن تتفق سماتهم ومواقفهم مع أي مما سبق من أنواع وتباديل.

إن الصراع مع هذا النوع من الإسلام هو صراع سياسي في المقام الأول، وربما الأخير، وهو يتبع قوانين كل الصراعات السياسية بما في ذلك الكر والفر، والمناورة والتكتيك، وما يصاحب كل هذا من كراهية وتوجس وتبادل صفقات ضرورية، واتفاقات مؤقتة، وتحديد أدوار بين الكاره والمكروه (تحت الترويض).

خامساً: الإسلام الاستقطابي الأعمى: هنا يتحقق الموقف الذي ينفي الآخر بقدر ما ينفيه الآخر، وأكثر، مهما ادعي غير ذلك. هذا هو ما يركز عليه خصوم الإسلام تبريرا لمصارعته ثم تشويهه أو تمييعه أو محوه. ومن أسف أن هذا النوع هو أنه يقوم بوظيفة «دفاعية» حفاظا على هوية متميزة في مقابل التحدي والاستقطاب على الجانب الآخر. مثلاً: إن استقطاب اليهود وتفردهم بزعم أنهم هم الذين يمثلون الدين الصحيح دون سواهم، لابد أن يقابل باستقطاب إسلامي مقابل يدعي نفس الدعوي ليحمي نفسه من الذوبان أو التبعية. على نفس القياس نجد أن إحياء الأصولية الإنجيلية في أمريكا متضامنة مع الصهيونية والقوي المالية تضطر المخالفين (مسلمين أو غير مسلمين) إلى التجمع حول القطب المضاد زاعمين بدورهم التفرد بالحق وتمثيل الخير وهكذا.

سادساً: الإسلام الإبداعي: (الصوفي/ الوجودي/ النقدي/ الاجتهادي/ المعايشي) هذه الصورة يندر الحديث عنها بقدر ما يصعب توصيفها، مع أنها هي الصورة الأقرب إلى أصل الإسلام وكل الأديان. ويرجع ذلك إلى أن هذا النوع هو متجاوز للتفاصيل دون التخلي عن الأساسيات وبالتالي فإن المؤسسات الجاهزة، والتفسيرات الجامدة تقف له بالمرصاد، إن هذا النوع هو أقرب ما يكون إلى النوع الأول «الإسلام التوحيد الحرية» إلا أن أصحاب هذا الموقف يحاربون ويرفضون من الإسلام السلطة، ومن الإسلام الرسمي، ومن الإسلام الوسيلة السياسية أكثر مما يرفضون من أعداء الإسلام. يترتب على ذلك أنهم يضطرون إلى أن ينتسبوا إلى ما يحقق رؤيتهم، ويطلق حريتهم تحت اسم غير الإسلام، أو هم يحققون ذواتهم، ويمارسون جهادهم، بشكل فردي أو ثللي محدود.


إن هذه التقية تحرم الإسلام من أنقي صوره وأكثرها وعدا بتحرير الإنسان والحفاظ على مواصلة النمو والإبداع المتجدد، سعيا إلى تأصيل العلاقة بالكون والامتداد في المطلق فردا فردا على طريق تعميق الوعي وحرية الوجود.

وبعد

علينا لكي نفهم حقيقة مشاعرهم، وطبيعة دوافعهم أن نحدد رؤيتنا لجوانب الموقف المختلفة على الوجه التالي:

أولاً: إن الدعاوي المطروحة على الساحة الآن لتبرير الصراع والإغارة والعدوان، فالقهر والإبادة والتبعية، على عدو من صنعهم أسموه «الإسلام» هي دعاوي زائفة مضللة، لها أغراض أخرى وتبريرات أخرى.

ثانياً: إن اختلافنا عنهم إن لم يكن موجهاً في النهاية لنفع كل الناس وترقية نوع وجود البشر كافة وحفز تطورهم، فإن علينا أن ندفع ثمن جرجرتنا إلى الاستقطاب، فالصراع، وما قدر يكون.

ثالثاً: إنهم إذ يروجون للخوف والإخافة، ومن ثم الكراهية فالعدوان فالإبادة. تحت زعم اختلافات دينية أو عقائدية يحركون العالم أجمع نحو هاوية لن ينجو منها أحد.

رابعاً: إن التسويات الرمادية المائعة تحت زعم نزع الكراهية وادعاء قبول الآخر وتحمل الاختلاف يمكن أن تكون تسكينية تحرم المختلفين من فرصة جدل حقيقي.

خامساً: إن كراهية الأقوى للأضعف هي دليل على زيف قوته، كما أنها ينبغي أن تكون حافزاً لإعادة الرؤية ومعاودة المحاولة، كما أن كراهية الأضعف للأقوى لا تفيده في مسيرته نحو قبول التحدي والانتصار لكليهما إلا إذا كانت بداية للتعرف على أسباب الضعف من ناحية، ثم للإسهام في تجاوز الاستقطاب والانغلاق والتعصب من ناحية أخرى. إن حقنا وواجبنا في كراهيتهم يلزمنا ــ رغم ضعفنا ــ بمسئولية أكبر نحونا ونحوهم.

سادساً: إن اختلاف تجليات ما هو إسلام تلزم المسلمين بمحاولة استيعاب هذه الاختلافات للتعرف على ما بها من إيجابيات، والحذر مما بها من سلبيات، ثم محاولة قبول الاختلاف فيما بيننا وبين بعضنا قبل أن نطالب غيرنا بقبولنا.

 

المصدر : www.hayatnafs.com

إقرأ 7922 مرات آخر تعديل على الثلاثاء, 25 أيلول/سبتمبر 2012 08:32
FacebookMySpaceTwitterDiggDeliciousStumbleuponGoogle BookmarksRedditNewsvineTechnoratiLinkedinRSS Feed