طباعة

سيكلوجية النصب والاحتيال

Posted in المجتمع

criminal-manإن أحداث آخر عملية نصب على المصريين والتي جرت تفاصيلها في مصر ودبي من خلال شركة استثمارية (أو شركة أوراق مالية) وراح ضحيتها حتى الآن 68 مصري في داخل مصر و13 مصري في دبي (هؤلاء فقط من أعلنوا عن أنفسهم وربما غيرهم كثير يخشون الإعلان لأسباب بعضها معلوم وأكثرها مجهول) , وهم جميعا ينتمون إلى طبقات اجتماعية عليا , فمنهم رجال أعمال ورياضيين وإداريين وفنانين بل ووزراء .

 

وقد نجح صاحب الشركة في جمع ملايين الدولارات منهم بحجة استثمارها , وأغراهم في البداية بفوائد عالية بلغت في بعض الأحيان 40-50% في السنة ووضع على رأس مجلس الإدارة اسم أحد الوزراء , ثم فجأة أعلن صاحب الشركة من جانب واحد أن الرصيد أصبح صفرا , فهاج وماج المودعون ورفعوا القضايا , ونشطت وسائل الإعلام تستطلع الأمر وتستضيف المودعين ومحاميهم ليصفوا صاحب الشركة بأنه نصّاب ومحتال وانتهازي , ثم تستضيف مدافعين عن صاحب الشركة (لزوم الموضوعية أو حرية الرد , أو قل لزوم تسخين المعركة الإعلامية) ليقولوا بأن المودعين حصلوا على فوائد كثيرة تفوق أرصدتهم التي أودعوها وأنهم طمّاعين أكثر من اللازم , وأن ما حدث هو نتيجة طبيعية لانهيارات البورصة العالمية , ثم يقف المحللون الإقتصاديون ليقولوا بأنه استحالة فى عالم البورصة أن يصل الرصيد صفرا , إذ أنه لا يمكن أن يصبح قيمة السهم صفرا في أي حال من الأحوال . المشكلة ليست في أن شخصا خدع آخرين أو نصب عليهم أو استغلهم , فهذا يمكن أن يحدث في أي مجتمع , ولكن المشكلة هي في تكرار تلك الحوادث في المجتمع المصري بصورة ملفتة للنظر (نصّاب مدينة نصر وهو ابن أحد الوزراء , وقبله شركات توظيف الأموال , وقبلهم وبعدهم عدد كبير من رجال الأعمال نصبوا على البنوك وأخذوا منها المليارات وهربوا ) , وبشكل يدعو المتخصصين في مجالات علم النفس والإجتماع لأن يدرسوا هذه الظاهرة , من كافة جوانبها وأطرافها , لمعرفة أسبابها وجذورها ومظاهرها وطرق مواجهتها (إن كان ثمة نية وإرادة للمواجهة) , وهذا ما سنحاوله في هذه الدراسة , على أن نعتبرها بداية لمحاولات أكثر تفصيلا ومنهجية . وسوف نقوم بتأمل عناصر المشكلة كل على حده , ثم نرى كيف تتفاعل هذه العناصر لتنشئ حدث "النصب المتكرر" على أفراد الشعب المصري . وهل القابلية للنصب لدى الشعب المصري متصلة بقابليات أخرى مثل : القابلية للإستعمار والقابلية للإستحمار والقابلية للإستبداد والقابلية للقهر ؟؟!! .. تلك القابليات التي يشاركنا فيها إخوتنا العرب من المحيط إلى الخليج وجعلتنا مستباحين لكل مستعمر ومستحمر ومستبد وقاهر .

وفي البداية نتساءل : ما الذي يجعل حوادث النصب كثيرة ومتكررة بهذا الشكل في المجتمع المصري ؟ ... ألدينا عدد أكبر من النصّابين ؟ ... أم لدينا عدد أكبر من السذج والغافلين والمغفلين ؟ ... أم لدينا بيئة محرضة على النصب (كما هي محرضة على الغش في الإمتحانات وتزوير الإنتخابات والرشوة والفساد والإستبداد والتحرش , وكلها آفات شديدة الصلة ببعضها)؟ ....


ولكي نتعرف على الإجابة أو نجد تفسيرا سنحاول الدخول إلى المعنى النفسي للمال والتملك ثم نعرج إلى أركان جريمة النصب لنرى العوامل التي تساعد على إتمام الجريمة في أركانها الثلاثة : النصّاب , والمنصوب عليه , والبيئة التي احتضنت جريمة النصب .

سيكولوجية المال والتملك :

إن دافع التملك هو من أقوى الدوافع النفسية لدى الإنسان , وقد لا يحتاج منا إلى إقامة دليل حيث يبدو وكأنه بديهية من بديهيات الحياة , إذ يكفي فقط النظر بالعين المجردة إلى ما يدور بين الناس من صراعات لنكتشف أنها صراعات حول التملك (حتى وان أخذت أسماء أو شعارات أخرى) . والتملك متصل باكتساب الأشياء المادية بجانب القوة والسيطرة , واكتساب الشعور بالأمن , واكتساب الحب , واكتساب تقدير أعلى للذات , وتمدد الذات في الزمان والمكان .

وقد عرف إبليس قوة دافع التملك وما يتصل به من رغبة عارمة في البقاء والخلود , ولذلك حين أراد أن يغوي سيدنا آدم عليه السلام للأكل من الشجرة المحرمة كان هذا مدخله , وهذا يجعلنا ننظر لإبليس على أنه عالم بخبايا النفس ومواطن ضعفها قبل علماء النفس بكثير كما سنرى في الآيات التالية :

"فأزلهما الشيطان عنها , فاخرجهما مما كانا فيه "

وكان هذا أول درس فى الغواية وأول تجربة فى الوسوسة نجح فيها ابليس حيث استغل بعض خصائص هذا المخلوق الجديد (الإنسان) ومنها ولعه بالممنوع , فهذا الانسان كلما منعت عنه شيئا زاد فضوله نحوه وزادت رغبته فيه وربما نسى كل ماهو مباح له وانشغل بالشىء الوحيد الممنوع , ومن هذه الخصائص ايضا رغبته فى الخلود وامتداد الملك , تلك الرغبة التى لعب عليها ابليس ..

" الاأدلكما على شجرة الخلد وملك لايبلى  " ..

ويبدو ان هذه الخصائص الثلاث فى الانسان (الولع بالممنوع , والرغبة فى الخلود , والرغبة فى التملك) ستكون ثغرات يخترق من خلالها ابليس كيان هذا المخلوق الجديد كلما أراد ان يغويه لكون هذه الخصائص عميقة الجذور فى البناءالنفسى للانسان , ولكون نجاح ابليس الاول فى الاغواء كان من خلالها. ويبدو ايضا ان هذه الخصائص من القوة فى النفس البشرية بحيث يمكن ان ينسى معها الانسان  العهد حتى وان كان قريبا ....حتى وان كان ذلك العهد مع الله , وهذا ما حدث مع آدم عليه السلام ,ويحدث بشكل متكرر مع ذريته رغم كل التحذيرات ورغم تجارب الاغواء والسقوط المتكررة .

وجاءت الأديات تترى بعد ذلك لتعالج نقاط الضعف هذه في النفس البشرية من خلال الحث على الإنفاق في الخير (الصدقة والزكاة) , وتطهير النفس من الجشع والطمع والحرص والبخل (وكلها آفات نفسية خطيرة) , والبحث عن الخلود والبقاء في الأعمال الصالحة .

رؤية التحليل النفسي :

يرى التحليليون أن اكتناز المال سمة مرتبطة بالتثبيت عند المرحلة الشرجية , وهو مكافئ لإمساك الطفل عن إخراج برازه ومعاندة الأم في ذلك ثم شعور الطفل بقدرته على التحكم والسيطرة والإستمتاع بذلك , وهذا يفسر لنا الرغبة في جمع المال واكتنازه بشكل شره لدى بعض الناس . وهناك بعض التعبيرات التي ربما تشير إلى الإرتباط بين المال والبراز حين نقول مثلا : "أموال قذرة" .. "غسيل أموال" ...


والمال من ناحية أخرى هو رمز للقوة والسيطرة والقدرة , وهو من الناحية التحليلية يكون مكافئا للقوة الجنسية وللقضيب , فالذي يمتلك المال يشعر بقدرة كبيرة ونشوة هائلة , ويشعر أنه جدير بكل النساء وبأجمل النساء , وربما يفسر لنا هذا ولع رجال الأعمال بالعلاقة مع نجمات الفن والغناء وإغداق المال عليهن , وحين تخون إحداهن أو تبتعد عن رجل الأعمال الذي اشتراها بماله واعتبرها من مقتنياته يقوم بقتلها حيث أنها هنا طعنته في رجولته , وأثبتت له أنه ليس الأقدر ولا الأقوى (راجع قتل المطربة ذكرى والمطربة سوزان تميم) .  وانتزاع المال من الشخص يكون أشبه بانتزاع قدرته الجنسية أو خصائه , أما إذا انتزع هو المال من الآخرين - كما هو الحال في النصابين والمحتالين - فإنه يشعر بالغلبة وبأنه سلب الآخرين قوتهم وقام بخصائهم , وهذا يعطي للنصّاب والإنتهازي لذة لا يجدها في الحصول على المال بشكل طبيعي من الجهد والعمل والمثابرة  . وهناك ملاحظة أن رجال الأعمال الذين يفقدون قدرتهم الجنسية بسبب المرض أو الشيخوخة أو الإنشغال الزائد  يتوحشون في جمع المال , وكأنهم يعوضون هذه بتلك , ويقومون بجمع الفتيات الجميلات بجوارهم (رغم عدم قدرتهم على التعامل معهن على مستويات أعمق ) , وكأنهم يقولون بلسان الحال نحن مازلنا قادرين على جذب النساء وجمعهن  .

وجمع المال قد يكون بحثا عن الأمان لدى من يفتقدون الأمان خاصة من عاشوا ظروفا أسرية صعبة في طفولتهم المبكرة , فهؤلاء فشلوا في أن تكون لهم علاقة بأم وأسرة تعطيهم الإحساس بالأمان فعاشوا يتوقون إليه دون جدوى .

والشراهة في جمع المال قد تكون مدفوعة بحرمان شديد من الإحتياجات الأساسية للشخص إبان فترة طفولته , وقد يحدث العكس لدى أطفال مدللون ومشبعون إلى حد التخمة , وهم قد تعودوا أن يأخذوا من الآخرين كل شئ , وأن لا يعطوا أي شئ , والأخذ عندهم دليل على الحب من الآخرين .

والمال قد يكون مكافئا للحب , فالحصول عليه يعوض حرمان من الحب والتقدير , وإنفاقه قد يكون بحثا عن الحب أو شراء الحب , فكثيرون ممن يندفعون نحو تحصيل المال بشكل شره لديهم فقدان للحب في حياتهم ويشعرون أن الناس تلتف حولهم فقط لامتلاكهم للمال فتزيد شراهتهم للمال والتي هي بالأصل شراهة للحب المفقود .

والمال قد يكون مدخلا للسلطة وما تمنحه من مزايا خاصة في المجتمعات التي تتزاوج فيها السلطة مع الثروة فيجد الشخص أنه جمع كل مصادر القوة والسيطرة في يديه .

وبما أن الحاجة للشبع وللقدرة والقوة والأمان والحب , كلها احتياجات نفسية عميقة , وهي احتياجات محبطة وغير مشبعة لدى المتطلعين بشغف إلى المال , لذلك نتوقع أن يستمر سعيهم الشره نحو المال طول الوقت , فهم لن يشبعوا لأن المسألة ليست احتياجات مالية تهدأ بالحصول على قصر وسيارة ورصيد في البنك , وإنما المسألة مرتبطة باحتياجات نفسية تم استبدالها بالمال , وهذه الإحتياجات النفسية احتياجات ملحة جدا ولا تهدأ مع محاولات الإشباع المتكررة .


 

كما أن التعاملات المالية فيها قدر من المخاطرة (خاصة تعاملات البورصة) , وهذه المخاطرة مع ما يتبعها من نتائج تكون مصحوبة بقدر عال من المشاعر سواءا الإيجابية أو السلبية , وهذا التماوج في المشاعر صعودا وهبوطا يكون مطلوبا لدى بعض الناس وممتعا لهم , وهو أشبه بسلوك المقامرة .

ماهو النصب والإحتيال ؟ :

"هو استخدام التضليل من أجل الحصول على أموال الآخرين , أو الإمتلاك بالباطل لأشياء ذات قيمة مادية عن طريق الغش والخداع والمراوغة والتزييف واختلاق الأكاذيب والمعاذير وتبديل الواقع والمبالغة والتهويل بجاذبية مصطنعة تشد أنظار وأسماع الآخرين بما يضمن استثارة دوافعهم وانفعالاتهم وعواطفهم" (التعريف للدكتور أكرم زيدان في كتابه : سيكولوجية المال , سلسلة عالم المعرفة , مايو 2008) .

والنصب والإحتيال له صور كثيرة بعضها بدائي مثل لعبة الثلاث ورقات التي كان يمارسها النصّابون في الميادين العامة وساحات الموالد الشعبية , وبعضها شديد التعقيد ويحتوي على قدر عال من الذكاء والإبتكار , وهذا الأخير ما نراه في العصر الحالي حيث يمارس النصّاب عمله ويحتال على ضحايا على قدر كبير من العلم والثقافة والتجربة , ولهذا يحتاج لكم هائل من الغش والخداع والمناورة والمراوغة والكذب المتقن وتبديل الواقع وشد الأنظار واستثارة الدوافع واللعب على دوافع التملك والإغراء بالمكسب الهائل والسريع , وإعطاء ضمانات وهمية ولكنها كافية لإقناع مثل هؤلاء الناس بالتسليم له وهم في حالة خدر لذيذ إلى أن يفيقوا في يوم من الأيام على الكارثة ويكتشفوا أنهم كانوا ضحية لنصّاب يفوق ذكاؤه ذكاؤهم . ومع تكرار حوادث النصب والإحتيال فإن الناس لا تتعلم , ربما لأن النصّابون يجددون في وسائلهم المبتكرة , أو لأن الناس لديهم قدر من الدوافع والإحتياجات يجعلهم لا يرون الواقع كما هو بل يرون احتياجاتهم فيندفعون بلا منطق نحو المصير المحتوم , خاصة وأن كثيرا من النظريات الإقتصادية الحديثة أثبتت بأن الناس ليسوا دائما منطقيين في التعامل مع المال بل يحيط تعاملهم الكثير من المشاعر والإنفعالات والتحيزات , وهذا ما يلعب عليه النصّابون, فقد عرفوا ذلك بفطرتهم الشريرة قبل أن يكتشفها العلم .

التركيبة النفسية للنصّاب  :

الصورة النمطية للنصّاب لدى عموم الناس هي أنه شخص شديد الذكاء والمكر والدهاء والخيانة وانعدام الخلق والضمير , وقد يكون الأمر كذلك في بعض الحالات , ولكن القراءة العلمية لحوادث النصب تثبت بأن لكل نصّاب تركيبته ودوافعه وظروفه , ولذلك يحسن بنا أن نرى تلك التركيبة النفسية في مظاهرها وانعكاساتها المختلفة لكي نحيط بكل الجوانب التي يتميز بها النصّابون , فهم ليسوا سواءا , فقد نجد بعض الصفات التالية بتباديل وتوافيق مختلفة في شخصية كل نصّاب :

1– الكذب هوالصفة المحورية والأساسية لدى النصّاب , ولكنه غالبا ما يكون بارعا في كذبه بحيث يمر وقت قبل أن يكتشفه من يتعامل معه , والكذب صفة لا تتخلف أبدا في أي نصّاب , أي أنها صفة مشتركة لدى كل النصابين على اختلاف تركيباتهم واتجاهاتهم . ولذلك يعتبر الكذب عيبا جسيما في الشخصية لا يمكن التسامح فيه .

2 – المراوغة والخداع والتضليل , وهي صفات ثانوية تنشأ عن الصفة الأساسية وهي الكذب

3 – المبالغة , وتعني المبالغة في الحديث عن الأمانة والإخلاص , والقيم , أو المبالغة في التلويح بالمكاسب الهائلة


4– الإستهانة بالنظم والقوانين والأعراف , حيث يبدي النصّاب قدرة فائقة على تجاوز كل العقبات القانونية والإجتماعية للوصول لأهدافه , وهو يميل لأن يسلك طرقا خلفية لتحقيق ذلك

5– التاريخ الطولي المضطرب , إذ لا تظهر شخصية النصّاب في يوم وليلة , وإنما تتكون عبر تراكمات لسلوكيات تنتهك الحقوق والممتلكات , فمثلا نجد أن النصّاب كان مشهورا بالغش في الإمتحانات , ومشهورا بالكذب , ومشهورا بالسرقة من البيت أو من زملائه في المدرسة , ومولعا بالحصول على ما يريد بالرشوة أو بالوساطة أو بالتزوير أو بالخداع . وهو غير مستقر انفعاليا , إذ تجد تقلبات كثيرة في حياته فينتقل من بلد إلى بلد أو من علاقة إلى علاقة , ولديه تاريخ سابق في الفشل في مشروعاته .

6– الطموح المفرط , وهذا ما يجعله في حاجة شديدة إلى مال كثير يجمعه في وقت قليل , حيث لا يوجد لديه وقت للسعي بالطرق المعتادة ليجمع مالا محدودا في فترة زمنية طويلة

7 – إعلاء مبدأ اللذة , فهو يسعى لتحقيق أقصى قدر من الإستمتاع في حياته فتراه يهتم اهتماما مبالغا فيه بالسيارة التي يركبها , والمسكن الذي يعيش فيه , وملابسه وشياكته , والأماكن التي يرتادها , والأصدقاء الذين يجلس معهم . وفي المقابل هو لا يعطي لمبدأ الواقع قيمة , فهو أسير فقط للذاته واحتياجاته بصرف النظر عن أي اعتبارات اجتماعية أو أخلاقية أو قانونية

8– لا يشعر بالذنب , فمهما كان عدد ضحاياه , ومهما كانت معاناتهم من سلوكه , فهو لا يشعر تجاههم بأي ذنب أو تعاطف

9 – لا يتعلم من أخطائه , ولهذا نجد في حياته الكثير من محاولات الكذب والتضليل والخداع والتزوير , وأنه تعرض بسبب ذلك لمشكلات اجتماعية أو قانونية , ومع ذلك لا يكف عن تكرار أفعاله السلبية

10– قدرة فائقة على معرفة نقاط ضعف الضحايا وتوظيف هذه النقاط الضعيفة لكي يتمكن من استغلالهم , فهو يختار ضحاياه من الطامعين في المكسب السريع مثله (وهذه مساحة مشتركة بين الجاني والضحية في جرائم النصب والإحتيال)

11– قدرة فائقة على طمأنة الضحايا من خلال إعطائهم ضمانات وهمية , كعلاقاته ببعض الشخصيات الموثوق بها (أو المفترض أن تكون موثوقا بها كالوزراء وأبناء الوزراء) , وإبداء ميزانيات تبدو مقنعة , وأصولا تبدو كافية لتغطية احتياجات الضحية في حال فشل المشروعات المعروضة .

12– النرجسية , بمعنى الإفراط في حب الذات وتقديرها , والشعور بالتفرد والتميز , والرغبة في التألق والظهور والإبهار , والتمركز حول الإحتياجات الشخصية , وكل هذه الأشياء تجعل الشخص النرجسي في حاجة إلىكثير من المال للإنفاق على ذاته المتضخمة ليحقق الإبهار لمن يراه .

13– الشعور بالنقص , وهو دافع لعمليات تعويض يقوم بها الشخص لمواجهة هذا الشعور , فيضطر لأن يبالغ في امتلاك عناصر القوة وإظهارها (طبقا لنظرية ألفريد أدلر) , وبما أن المال يعتبر أحد أهم عناصر القوة إذن يصبح الحصول عليه هدفا أعلى . والشعور بالنقص يلازمه شعور بالدونية تجاه الآخرين , وهذا يدفع من يشعر بالنقص إلى أن يسلب الآخرين مصدر قوتهم (المال) ويضيفه إليه , وبهذا يستعيد توازن القوى بينه وبينهم . وربما يشكل حصوله على المال بطرق النصب نوع من الإنتصار عليهم لا يحققه كسب المال بطريق الجهد والمثابرة , فهو في حالة النصب يثبت لنفسه أنه الأذكى والأجدر , وأنهم الأغبى والأسوأ , أي أن هناك صراع نفسي بين الجاني والضحية يمثل فيه المال أداة للصراع ويصبح من يحوزه منتصرا على الآخر .


14– غواية المال , فالنصاب يضعف تماما أمام أي قدر من المال , كما يضعف أي مراهق أمام فتاة إغراء , وهي غواية لا يستطيع مقاومتها بسهولة , وهو لذلك دائم السعي وراءه والإحتيال من أجل الوصول إليه .

15– تعود الأخذ دون عطاء , فمنذ صغره يحصل على كل ما يريده من أبويه أو غيرهما دون بذل جهد , لذلك تتضخم عنده مستقبلات الأخذ وتضمر عنده ملكات العطاء , ولهذا نجده شديد الشراهة للأخذ ولا يشبع أبدا , وهو قد تعود أن يحصل على ما يريده من أيدي الآخرين وليس بجده وتعبه وكفاحه , فالآخرون بالنسبة له مكلفين بإعطائه ما يحتاج وكأنهم مدينين له دائما

16– البذخ والرفاهية , فهو يعيش بشكل مبالغ فيه من الأبهة والفخامة والترف , ولا يهمه من أين يأتي المال لتوفير كل ما يرتع فيه من مظاهر .

17– ضعف الإنتماء , ويظهر في هشاشة علاقة الشخص بأسرته وبمجموعة الرفاق أو الأصدقاء , بل وفي علاقته بالوطن أو الناس عموما , ولذلك يسهل على النصاب الحصول على المال ثم الهروب به إلى أي مكان في الأرض ليستمتع به ولا يشعر بفقدان للأهل أو الوطن

18– ضعف العلاقة بالواقع , فلا يستطيع النصّاب رؤية الفرص المتاحة للكسب الطبيعي , كما لا يستطيع إدراك المخاطر التي تحيط بسلوكه المنحرف , فهو في حالة إنكار وانعدام رؤية إلى أن يقع في المحظور

19– الرغبة في الإثارة , وتلك الرغبة تتحقق أكثر من خلال عمليات النصب والإحتيال , خاصة حين يستطيع النصّاب خداع شخصيات تتميز بالذكاء العالي , كما أن العمل خارج نطاق المألوف يعطيه إحساسا بالمخاطرة اللذيذة , والتحدي الذي يشعره بقوته , وأنه قادر على أن يسلب الآخرين قوتهم

20– الإنتقام , وهذا يظهر لدى النصّابين الذين ينتقون ضحاياهم من الطبقات الإجتماعية الأعلى ومن الأغنياء عموما , فلديهم إحساس داخلي بأن هؤلاء حصلوا على أموالهم بغير حق , ولذلك يشعرون بمتعة وهم يسلبونهم تلك الأموال

21– السادية , وهي شعور بالسعادة واللذة لرؤية الضحايا وهم يتألمون ويعانون بعد أن سلبهم النصّاب أعز ما يملكون وهو المال , أي أن النصّاب هنا يستمتع مرتين , مرة وهو يستحوذ على المال , ومرة أخرى وهو يرى دموع الضحايا وحسراتهم , ولذلك لا نستغرب رؤية النصّابين , وهم يعيشون خارج البلاد يستمتعون بثرواتهم التي نهبوها , وهم في غاية السعادة ولا ينتابهم أي شعور بالندم أو الألم .

22 – الإنكار والتبرير والإسقاط , وهي دفاعات نفسية لا شعورية تسهل للنصّاب استكمال نصبه , وتحميه من لوم الذات أو صحوة الضمير , فهو لا يرى فيما يفعله شيئا خطأ ويبرر كل أعماله أمام نفسه وأمام الآخرين بأنها مشروعة تماما , ثم يسقط الأخطاء والمشكلات على الآخرين , أما هو فليس مسئولا عن شئ مما حدث , ولذلك حين تستمع لأي نصّاب (أو لمحاميه) تشعر أنه لم يخطئ في شئ قط وإنما الضحايا هم المخطئون , أو أن الظروف هي السبب .

23 – ضعف الأنا الأعلى , فالنصّاب ليس لديه ضمير كاف يردعه , وضعف الضمير هنا يحميه من الشعور بالذنب , ويسمح له بالإستمرار في عمليات النصب مدفوعا بالإحتياجات البدائية للجزء الغرائزي البدائي في النفس (الهو)


وقد جمعت بلوم (1972) سمات النصابين وحاولت وضعها تحت نمطين مشهورين من أنماط الشخصيات  :

-  اضطراب الشخصية المعادية للمجتمع

-  اضطراب الشخصية النرجسية

وهذا يكاد يكون صحيحا إلى حد كبير , وما نراه في الواقع هو فعلا مزيج من سمات هذين النمطين من اضطرابات الشخصية .

وقد وجد أن اضطراب الشخصية النرجسية في عموم الناس في حدود 1% , أما في النصابين فنجد أن السمات النرجسية توجد في أكثر من 80% من الحالات , أما اضطراب الشخصية المضادة للمجتمع فهو أيضا في حدود 1-3% ولكنه يوجد في النصابين بنسبة قد تصل إلى مائة بالمائة , وليس شرطا أن يوجد نمط الشخصية بالكامل ولكن على الأقل يوجد عدد من السمات المرتبطة بهذا النمط .

وفي المجتمعات المتخلفة تكثر السمات النرجسية والسمات المضادة للمجتمع , وهذا يفسر لنا شيوع النصب والإحتيال فيها على المستوى السياسي والإقتصادي والإجتماعي .

التركيبة النفسية للضحية (المنصوب عليه) :

الصورة النمطية لضحية النصب – كما تأتي في الأفلام القديمة – هي القروي الساذج , أو الشخص العبيط الغرير , أو كبار السن , أو منخفضي الذكاء عموما , وهذا جائز في عمليات النصب البدائية التي يقوم بها هواة ويستخدمون وسائل بسيطة , أما في هذا العصر فإن ضحايا النصب قد يكونون غاية في الذكاء وعلى قدر كبير من التعليم والثقافة , وقد يكونون رجال أعمال لديهم خبرة كبيرة بالسوق وطباع البشر , وهنا يحتاج الأمر إلى نصّابين محترفين من نوع خاص يستطيعون استمالة واستهواء واستلاب هذه النوعية من البشر ويستطيعون تحييد دفاعاتهم وتخدير حذرهم وحرصهم , ويستطيعون اللعب على نقاط ضعفهم , وبهذا ينجحون في خداعهم . والضحية من هذا النوع الأخير يشعر بالدهشة والصدمة ويشعر أيضا بالخجل من نفسه ومن الآخرين , وربما يمنعه هذا من الإبلاغ عن النصّاب لأنه يشعر بالعار ويسأل نفسه كيف حدث هذا معي ؟!! .. لقد نجح هذا الشخص في اغتصابي وأنا سلمت له نفسي !!!

وكما في سائر الجرائم يلعب الضحية في جرائم النصب والإحتيال دورا هاما وإيجابيا في حدوث الجريمة بوعي أو بدون وعي , وبناءا على التركيبة النفسية للضحية نستطيع أن نقسمهم إلى أنواع مختلفة :

1 – الطمّاع : وهو قد يكون أكثر طمعا وجشعا من النصّاب , وهنا يلتقط الأخير فيه هذه الرغبة المتوحشة في الثراء فيلوح له به , ويلعب على نقطة ضعفه بمهارة شديدة , وينجح في استثارة غريزة التملك لديه , وهي غريزة قوية بطبعها في الإنسان لا تهدأ ولا تشبع  . وحين تستثار غريزة التملك يتم استبعاد العقل النقدي بدرجات متفاوتة  تسمح للنصّاب بنصب شباكه حول الضحية مهما كان ذكاء الأخير وفطنته . والطمّاع لديه شراهة هائلة للمال , وتلك الشراهة تجعله لا يصبر على تنمية أمواله بالطرق المستقيمة المعهودة , بل يريد طرقا جديدة وغير مألوفة , وهنا فقط يقبل المغامرة والمخاطرة لتحقيق كسب سريع بأقل جهد ممكن وحبذا لو كان بغير جهد تماما , وفي تلك الظروف يقل حرص الطمّاع وحذره , وهنا يدخل النصّاب عليه فيجده جاهزا للتسليم على الرغم من ذكائه وحرصه المتوقع .


وهذا يفسر لنا كيف تتم عمليات نصب واحتيال على رجال أعمال كبار وعلى شخصيات لها مكانتها الإجتماعية المرموقة ولا يتوقع منها غفلة أو سذاجة . وقد يتكرر خداع مثل هذه الشخصيات مرات بعد مرات دون أن تتعلم الدرس أو يتعلم غيرها , وبهذا تتوالى حوادث النصب والإحتيال في المجتمع على الرغم مما يحوط كل جريمة من توعية وتحذير .

2 – الكسول (الإعتمادي السلبي) : وهو يسلم أمواله للنصّاب بهدف استثمارها كنوع من الإستسهال لديه لأنه لا يريد أن يتعب نفسه في استثمارها , ولا يكلف نفسه حتى عناء البحث والتقصي عن تاريخ وسلوك النصّاب , بل إنه يرضى بأي ضمانات يمنحه إياها النصّاب ويقنع نفسه بكفايتها وفاعليتها حتى لا يكلف نفسه الكسولة مزيدا من المشقة .

3 – الساذج : وهو بطبيعته قليل الذكاء يسهل التغرير به وخداعه , ولا يحتاج مجهودا من النصاب غير أن يعطيه فقط إحساسا بالأمان والرعاية والتقدير , وبما أن الساذج يفتقد لهذه الأشياء فهو ينظر للنصّاب على أنه شخص طيب يمكن الوثوق به

4 – المحتال : ويحتاج هذا النوع من الضحايا لنصّاب أكثر قدرة منه على الإحتيال , وهنا تحدث مباراة في النصب والإحتيال يفوز بها الأكثر دهاءا وذكاءا ومراوغة . والضحية المحتال تعود في حياته أن يكسب من الطرق الخلفية , لذلك فهو لا يشعر بالغربة حين يتعامل مع النصّاب , إذ أن أصل ثروته كان غير مشروع وجاء من طرق غير معهودة , وهو قد ألف تلك الطرق , بل إنه لا يطيق غيرها , إذ تعود أنها الأسرع والأسهل لجمع المال .

5 – المستفز : وهذا النوع يعيش حياة كلها ترف وبذخ , ويظهر ثراؤه بشكل يجمع حوله النصابين والمحتالين حيث تستمر محاولاتهم للإيقاع به , وتواتيهم الفرصة في وقت ما وفي ظروف ما تضعف دفاعات الضحية , فينفذون إليه من أي جانب . والمستفز لديه شراهة هائلة للإستهلاك ومن هنا يكتشفه النصابون بينما هو يقوم بالإنفاق ببذخ فيسيل لعابهم لماله .

6 – بعض الفئات الهشة : كصغار السن , أو كبار السن , والقرويين , وأصحاب الذكاء المنخفض , والمرضى النفسيين الذين يفتقدون القدرة على التمييز أو الحكم السليم على الأمور , وذوي الإحتياجات الخاصة .

البيئة المحيطة بعملية النصب :

هناك بيئة نستطيع وصفها بأنها بيئة محرضة على النصب والإحتيال , وهذه البيئة لها خصائص نذكرها فيما يلي :

1 – الفساد : حيث ينتشر في كثير من جوانب الحياة , فيبدأ الأطفال أولى دروسهم في النصب من خلال الغش في الإمتحانات , فيتعلمون منذ نعومة أظفارهم أن يحصلوا على أشياء دون بذل جهد أو تعب , وهم يجدون تشجيعا من ذويهم ومن المجتمع على ذلك ويعتبرون ذلك شطارة وفهلوة , فيكبرون وقد تطبعوا على ذلك فيكملون طريقهم بالرشوة والسرقة والإختلاس وتزوير الإنتخابات واغتصاب السلطة , أي سلطة .


2 – الحرمان : والحرمان هنا أمر نسبي , إذ ليس بالضرورة أن يكون النصّاب فقيرا أو معدما , وإنما يكفي شعوره الشخصي بالعوز والفقر حتى ولو كان غنيا , فالأمر هنا نسبي ويعتمد على إدراك الشخص لحاجاته ونواقصه . والحرمان ليس مقصورا على الحرمان المادي بل قد يكون حرمانا من الأمان أو حرمانا من الحب , أو حرمانا من التقدير الإجتماعي , أو حرمانا من تحقيق الذات , أو غيره من أنواع الحرمان , وهنا يتجه الشخص للنصب للحصول على أموال الآخرين بهدف إشباع ذلك الحرمان , ويصبح المال هنا وسيلة رمزية للإشباع عن حرمانات متعددة .

3 – عدم الأمانة : بمعنى أن تصبح الأمانة شيئا ثانويا أو هامشيا في المجتمع , فتجد صاحب السلطة يسئ استخدام سلطته , والطبيب ليس أمينا مع مرضاه , والمحامي يمارس أقصى درجات الخداع والتمويه وربما التزوير , والمهندس لا يراعي الله ولا يراعي ضميره في مواد البناء , والحرفي لا يتقن عمله , والقاضي غير محايد .

4 – الطمع : فكل إنسان يريد أن يحصل على أقصى ما يمكن , وأن يتفوق على أقرانه في الإمتلاك والملكية , وأن يتباهى بما لديه , وأن يشعر بالأمان كلما تضخمت ثروته (أو يوهم نفسه بذلك) . وحين تستعر غريزة التملك لا يمكن أن يطفئها مال , فهناك اثنان لا يشبعان : طالب علم وطالب مال , ولو أن لابن آدم واديين من مال لابتغى ثالثا , ولا يملأ عين ابن آدم إلا التراب .

5 – نمط الحياة : كأن تكون لدى النلاس شراهة استهلاكية تدفعهم للتورط في شراء واقتناء أشياء كثيرة تفوق قدراتهم فيضطرون للإقتراض ثم للنصب , وربما للسرقة أو الإختلاس أو حتى القتل . أو يكون الشخص من المقامرين أو المدمنين حيث تزيد الحاجة للمال عما تتيحه فرص الكسب الطبيعي . أو تكون لدى الأشخاص رغبة في الظهور بمظهر الثراء أو الكرم الزائد كنوع من المباهاة الإجتماعية .

6 – ضعف القوانين وبطء التقاضي : مما يمنح النصّاب فرصة للإستفادة من ثغرات القوانين ومن يأس الناس من الحصول على حقوقهم عن طريق القضاء

7 – شيوع قيم الفهلوة واعتبارها نوعا من المفهومية والشطارة والذكاء

ولكي نرى جريمة النصب في المجتمع المصري , وندرك خطورة شيوعها وانتشارها , ثم نتحدث عن علاجها فلابد أن نرى جذورها وتشعباتها ومكافئاتها المختلفة , فنرى مبكرا جريمة الغش في الإمتحانات , ونرى جريمة الوساطة والرشوة , ونرى جريمة تزوير الإنتخابات , ونرى جريمة اغتصاب السلطة , فكلها جرائم متصلة يكمن خلفها الكذب وسلب الحقوق والعدوان على الآخر والتلذذ بنهبه , ولا يمكن علاج النصب في الأموال دون تنقية وتنظيف الضمير ثم المجتمع من كل هذه الإنحرافات الأخلاقية والسلوكية , والتي يتورط فيها مجرمون تقليديون في بعض الأحيان , ويتورط فيها مجرمون غير تقليديين ذوي ياقات بيضاء ومراكز برّاقة في أغلب الأحيان , وهذا الفريق الأخير هو ما يطلق عليه السيكوباتي المهذب .

 

المصدر : www.elazayem.com

FacebookMySpaceTwitterDiggDeliciousStumbleuponGoogle BookmarksRedditNewsvineTechnoratiLinkedinRSS Feed