البوابة
المكتئب النعّاب
الحالة الأولى : جاء صوت زوجته عبر الهاتف قويا , صارما , قادرا ومؤكدا , تطلب موعدا قريبا جدا لإحضار زوجها المريض إلى العيادة , وحين حل الموعد دخلت الزوجة قبل زوجها المريض وظلت تتحدث عن مرضه بالنيابة عنه لأكثر من نصف ساعة , وكلما حاولت مقاطعتها أو إيقافها لإعطائى فرصة لمشاهدة المريض قاومت هى ذلك بشدة
وبعد وقت طويل خرجت من الغرفة لتحضره من صالة الإنتظار فهالنى الفارق الجسمانى بينهما فبيما تمتلك هى تكوينا جسمانيا ممتدا طولا وعرضا كان هو قصيرا منحنيا ذو وجه طفولى وقد جلس جلسة مدرسية منكسرة وهو يردد : " تعبان يادكتور ......تعبان ........تعبان جدا .......تعبت خلاص وزهقت ..... ماعنتش قادر أتحمل ..... أرجوك يادكتور ساعدنى ........ أنا كشفت كتير وأخدت علاج كتير .........أنا حاسس إن مفيش فايده .......... إنت إيه رأيك يادكتور .....هو الإكتئاب له علاج ولابس مسكنات ومنومات .........أنا شايف إنه مالوش علاج ......يظهر إنى هافضل كده طول عمرى .........قل لى يادكتور إن ماكانش لى علاج أمرى لله .........أنا نفسى أبقى كويس وارجع شغلى واشوف مصالحى بس مش قادر ...... صدقنى يادكتور ..........إنت طبعا عارف قد إيه الإكتئاب صعب ..... هما ساعات فى البيت مايبقوش مصدقيننى فاكرنى باتدلع .........فهمهم يادكتور إنى مش باتدلع ......أنا فعلا تعبان ومفيش أى علاج بيجيب معايا نتيجه .... حتى فكرت إن ده يكون مس من الجن ورحت لشيخ قرأ على ولكن برضه مفيش فايده .........تعرف يادكتور لولا الخوف من ربنا أنا كنت انتحرت .......أنا تعبان جدا يادكتور وشغلى كده هايفصلونى , هما صبروا علىّ كتير لكن مفيش فايده ..........." , وما كاد هو أن ينتهى من كلامه حتى ألقت الزوجة ملفا كبيرا مليئا بالوصفات الطبية ونتائج الأشعات والتحاليل , ألقته أمامى على المكتب بشكل غاضب وكأننى مسئول عما حدث ( رغم أننى أرى هذا المريض لأول مرة ) , ولم تترك لى فرصة للكلام أو مطالعة الملف المتضخم الذى ألقته أمامى بل راحت تشرح لى بتفصيل ممل رحلة المرض والعلاج التى استمرت لأكثر من سنتين بلا جدوى , ثم تنهدت تنهيدة عميقة وقالت فى أسى مشوب بالغضب ( من زوجها ومن الأطباء وربما منى ومن كل الرجال ) : أنا تعبت يادكتور .... ساعات ييبقى كويس ومفيش فيه أى حاجه ونقول خلاص هايصبح يروح شغله وأول مايصحى الصبح نلاقيه تعب تانى مع إنه كان فرحان بالليل إنه هايروح الشغل ...... فكرت إنه معمول له عمل بالصد عن الشغل ......... مع إنه كان موظف ملتزم جدا فى الشغل وعمر ماحد اشتكى منه ولا كان حد يسمع له حس ....... " , وبينما كانت هى تتكلم كان ينظر إليها كطفل ينظر إلى أمه , وبعد لحظات وجدته يقاطعها بلا مناسبة ليقول لى : " ياريت ماتكتبليش حقن يادكتور ....أنا ماباحبش الحقن طول عمرى .........أنا تعبان .....شوف لى حل ضرورى يادكتور " . وحين راجعت التحاليل والأشعات لم أجد فيها شيئا , ووجدت أنه قد زار كبار الأطباء النفسيين ووصفوا له أفضل أدوية الإكتئاب حتى تلك التى تعطى للحالات المقاومة للعلاج , وبعضهم عالجه بجلسات تنظيم إيقاع المخ ( الكهرباء ) , ومع هذا كانت حالته لاتتحسن .
- السابق
- التالي >>